د . وجيه فانوس – الحوارنيوز خاص
ما انفك اللبنانيون يتباهون، ومنذ عقود ممعنة في عراقتها الزمنية من تاريخهم السياسي والاجتماعي، بأنهم أهل فطنة وذكاء وجماعة رقي اجتماعي وسمو حضاري. ولقد ذكرت، أستاذة الأدب الحديث والمعاصر في الجامعة اللبنانية، الدكتورة هند أديب دورليان، في دراسة لها نشرها “المركز التربوي للبحوث والإنماء”، بعنوان “بنيان الأسطورة في شعر سعيد عقل”، إلى ما يدلّ على مثل هذا الأمر؛ إذ ترى أن الشاعر اللبناني سعيد عقل، وهو الكبير في الرأي والرؤيا، طمح أن يكون وطنه “مبتدأ كلّ الحضارات وكلّ القيم وكلّ العلوم، كما أراد له أن يكون مركزًا للإشعاع يختزن كمًّا من التاريخ الإنساني والإنجازات”. ولئن كان هذا الحال، واقعاً في رأي ورؤيا، فكيف يمكن أن يكون، في واقع يعيشه اللبنانيون، عن بكرة أبيهم، في هذه المرحلة من وجودهم السياسي والاجتماعي؟
لقد عقد السيد رئيس الحكومة، الأستاذ “نجيب ميقاتي”، منذ أيام قليلة، لقاء عاما في السّراي الحكومي، طلب فيه من الأستاذ “جورج قرداحي”، وهو وزير الإعلام في الحكومة الحالية، ومَن ما زالت بعض تصريحات سابقة له تثير عاصفة دبلوماسية وسياسية هوجاء شديدة الوقع، على الصَّعيدين اللبناني والعربي وخاصة الخليجي منه، “تقدير المصلحة الوطنية واتخاذ القرار المناسب لإعادة إصلاح علاقات لبنان العربية”. وحصل، في الوقت عينه، أن القاضي “شادي قردوحي”، المستشار المنتدب في “محكمة الجنايات في جبل لبنان”، أعلن، أمام الملأ، اعتكافه عن حضور جلسات محكمة الجنايات؛ كاشفا عن مخالفات قضائية كبيرة، قوامها “أن ضعيفاً ارتكب جرم سرقة دراجة نارية، نحكمه بالاشغال الشاقة لثلاث سنوات؛ فيما متهم بجناية قتل، قد يفلت من العقاب، بسبب نافذ أو نفوذ مستتر”.
يضاف إلى هذين الأمرين، وضمن هذا السياق، أن طائفة من أخبار، ما برحت تجول بين اللبنانيين، تذكر إمكانيات حثيثة ناشطة لكفّ أيدٍ لقضاة يحققون في انفجار مرفأ بيروت وكذلك في الأحداث المروعة الدامية التي شهدتها منطقة الطيّونة؛ وسبق أن تناثرت، ضمن هذا الواقع الراهن وقبله، أقوال عديدة، في بعض الصحف ووسائط للتواصل الاجتماعي، تشير إلى تدخّل لأناس من ذوي المهابة الدّينية أو السياسية العليا، في اعتبارهم أن فلاناً، من أهل السياسة أو الإدارة، “خطّ أحمر”، بنظرهم؛ ولذا، يحظر المساس به، على مستوى الطائفة أو الانتماء السياسي، بأي شكل أو طريقة.
هذا حال الناس في لبنان، حكّاماً ومحكومين، ساسة ومساسين، قضاة ومتقاضين؛ واللبنانيون، ما انفكوا، رغم كل هذا، يتباهون بأنهم أهل فطنة وذكاء ورقي اجتماعي وسمو حضاري، وأنهم يعملون بأمانة لتحقيق عملاني لطموح الشاعر سعيد عقل في رأيه ورؤياه.
هذا في عالم الناس، وتحديداً في دنيا اللبنانيين؛ وهم أحفاد الذين علّموا الناس الحرف، وسلالة من ما برحت أنقاض مدرسة الحقوق الرومانية، تحتل أمكنتها الأصلية، في محيط مجلسهم النيابي في عاصمتهم بيروت؛ وكثيرون منهم عرفوا فضل رؤية الانتصار للحق والعدالة في مواقف الإمام “الأوزاعي” في العصر العباسي، وعاصروا المفكّر “شارل مالك”، يوم ساهم في وضع شرعة حقوق الإنسان، التي تتبعها هيئة الأمم المتحدة إلى اليوم؛ وآخرون منهم درسوا القانون وأصول الفقه الحقوقي، على العلاّمة “صبحي المحمصاني”، ومنهم من نهلوا فنون المرافعات القانونية، من مكتب المحاماة الأشهر للأستاذ “بهيج تقي الدين”؛ وسواهم كثر ممن عرفوا عن الرؤية المستقبلية البنَّاءة للبنان، عبر أفكار الشيخ “موريس الجميل”؛ ومن تربّوا على مقولة الرئيس “صائب سلام”، “لبنان واحد لا لبنانان”؛ وعديد جداً منهم رضعوا حليب طفولتهم، مسكوباً في كؤوس من بلَّور دبلوماسية “بطرس ديب” وألمعية “غسَّان تويني” ورهافة الحسّ الوطني لـ”نصري سلهب”، وثقافة الانفتاح الإنساني العميق لدى الشيخ “صبحي الصالح”.
يُعرف الغراب، في عالم الناس، بأنه طائر أسود مشؤوم مكروه؛ ينماز بمهابة لصوته، دفعت بغالبية القوم إلى أن تتشاءم من رؤيته أو سماعه، إضافة إلى ما يكسو بدنه من لون أسود قاتم. لطالما حيكت حول الغراب حكايات إنذاره للناس بالخراب والبؤس والفشل؛ ولعل مصدر ذلك ما تذكره به، أخبار البشر العتيقة، مرسالاً عجز عن إبلاغ بشرى الخير إلى نبي الله نوح، يوم كان النبي يطوف المياه الصاخبة بحثاً عن يابسة ترسو عليها سفينته. وواقع الحال، فإن جميع أحوال البؤس والفشل والخراب، لم تدفع بالغراب، إلى التخلي عن ما يتمتع به من مستوى ذكاءٍ مرتفع نسبياً، مقارنة مع غيره من الطيور؛ خلافاً لما يعيشه كثير من اللبنانيين اليوم، من تخليهم عن ما طمح إليه شاعرهم الكبير سعيد عقل، من رؤيا ورأي لوجودهم.
تشير بعض دراسات في سلوك عالم الحيوان، إلى ما يسمى بـ”محاكم الغربان”؛ وفيها تحاكم الغربان أي فرد منها يخرج على نظامها الذي تعيش فطرتها بموجبه؛ والملاحظ ههنا، وعلى سبيل المثال، أن لكل جريمة عند الغربان عقوبة خاصة بها؛ فجريمة اغتصاب طعام الفراخ، التي لم يكتمل نموها بعد، تقضي بأن تقوم مجموعة من الغربان بنتف ريش الغراب المعتدي، ليصبح عاجزا عن الطيران، مثله مثل الفراخ الصغيرة التي اعتدى عليها؛ كما تكتفي محكمة الغربان، في جريمة اغتصاب العش أو هدمه، بإلزام الغراب المعتدي بناء عش جديد للغربان صاحبة العش المعتدى عليه.
واقع الحال، لم تجد هذه الدراسات، في علم الحيوان، ثمَّة مساع إلى إلغاء تجاهلِ أذى أو إجرام؛ ولم تعثر، كذلك، على سلوكية تستقوي بانتماء طائفي أو مذهبي؛ كما لم تؤكد أي محاولة لإبعاد قضاة عن تحقيق يقومون به، أو محاولة من قاض للنزول عن قوس الحكم تجنبا منه لظلم قد ينزله بمتقاض يقف أمام قوس عدالته.
قد لا يقف الأمر عند مجرد مقارنة فجائعية بين واقع مظلم يعانيه اللبنانيون اليوم، وآخر مشرق ترفل به الغربان؛ فالحقيقة المرة تتجاوز كل هذا، إلى أن هؤلاء اللبنانيين، وخلافاً لما تعيشه الغربان في سوادها الممقوت وشؤمها المكروه؛ ما زالوا يمعنون في التنازل القميئ، عن هذا التصوير المشرق لطموحات وجودهم، كما بشر به شاعرهم الكبير، سعيد عقل. وها إن، كثر من هؤلاء اللبنانيين، ينهمكون اليوم، على سبيل المثال وليس الحصر على الإطلاق، في الإعداد والاستعداد، لخوض انتخابات نيابية، وفاق قانون عتيق ما جنوا منه، طيلة عقود مديدة، سوى انقسامات طائفية وصراعات مذهبية وتفرد لزعامات شخصية وتزايد في مجالات استغلال الثروات الوطنية لصالح تلك الشخصية، وتفانيا شعبيا عاصفا للسعي إلى هجرة جامحة عن أرض الوطن.
تُرى، لو يسعى هؤلاء اللبنانيون إلى أن يكونوا غرباناً، مكروهين مشؤومين؛ ألن يكون أفضل حالاً لهم، ولأيامهم المقبلة، من أن يظلّوا على هذا الفهم المحيق لطموح سعيد عقل، وتراث أجدادهم وآبائهم من عمالقة منارات العلم وكبار أساطين القانون والعظماء من صنّاع الثقافة؟!
*استاذ جامعي وباحث. رئيس ندوة العمل الوطني – لبنان
زر الذهاب إلى الأعلى