من المسؤول عن مهزلة فرار السجناء؟
كتب محد هاني شقير:
"المستبد عدو الحق، عدو الحرية وقاتلهما"( عبد الرحمن الكواكبي).
مناسبة هذا القول هي عملية الفرار الجماعي من نظارة قصر عدل بعبدا التي حصلت منذ يومين، وهي ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، فطالما يهمل القضاة دورهم في محاكمة الموقوفين ويتركونهم في النظارات حبيسي المزاجية، فإننا سنشهد عمليات فرار مماثلة بين الفينة والأخرى.
إنّ كلّ ما يجري تناوله حول هذه العملية يدخل في باب التحليلات والتوقعات، غير أن الثابت الوحيد هو أنّ 69 موقوفًا تمكنوا من الفرار، بعضهم توفي في حادث سير وبعضهم الآخر أُعيد الى الزنازين، فيما لا يزال 35 منهم فارين، بينهم أشخاص يشكلون خطرًا على المجتمع؛ فمنهم من ارتكب جرائم قتل عمدًا، ومنهم من ارتكب عمليات نشل وسلب وسرقة واحتيال، وقائمة جرائمهم تطول وتختلف بين شخص وآخر.
كان هؤلاء قيد المحاكمات، لكنهم، جميعًا لم تجر محاكمتهم بشكل طبيعي، "فنسيهم" القضاة في النظارة، كالمئات مثلهم الذين تتأخر محاكماتهم ويستبقون قيد التوقيف الاحتياطي بأوامر قضائية. فالمادة 108 أجازت لقاضي التحقيق،كما يقول الناشط المحامي حسن بزي، ان يخلي السبيل في الجنحة بعد مضي شهرين من التوقيف، تمدد بقرار معلل لشهرين اضافيين اذا كانت وقائع الملف تستوجب ذلك. أما في الجناية فتختلف مدة التوقيف إذ يمكن للقاضي ابقاء الشخص موقوفًا ستة أشهر وتمديدها بقرار معلل الى سنة، باستثناء بعض الجرائم مثل الارهاب والقتل والاتجار بالبشر والمخدرات، وفي هذا النوع القاضي غير ملزم بفترة زمنية لاخلاء السبيل.
لكن استبقاء الأشخاص بهذه الأعداد الكبيرة داخل النظارات دونه متاعب ومخاطر جمة؛ فعامل الوقت الطويل يسمح لهم بالتعرف على بعضهم البعض، والتفكير بصوت عالٍ في ما بينهم، وحين يتبادلون الثقة والأمان، فإنهم يبدأون بالتخطيط لارتكاب جرائم بشكل مشترك، ومن بين أولى تلك الجرائم، البحث عن نقاط ضعف النظارات التي تجمعهم، والتفتيش عن كيفية استغلالها بغية تنفيذ عمليات هروب مشتركة. وهذا ما حصل فعلاً في نظارة قصر عدل بعبدا وقبلها في عدة نظارات. ولكن هذه النظارة بالذات فإنك إن زرتها ستكتشف أن الوقوف قرب بابها الرئيس هو بمثابة مرض بحدّ ذاته، فكيف سيكون الحال عليه تحت الأرض؟!
المشكلة هي مشكلة سجون، فبعد الأزمة السورية حوالي 25 بالمئة من الموقوفين هم من السوريين و15 % من باقي الاجانب والعرب، وبالتالي ضاقت السجون بهم، وخطة تشييد سجون جديدة لا زالت منذ عشرين سنة حبرًا على ورق.
فالسجون في لبنان- يضيف بزي – للأسف لا ترقى الى مكان يصلح لسجن انسان ،وهذا الامر ينسحب على النظارات أيضًا، وهي باتت بحاجة ماسة للتطوير عمرانيًا وبيئيًا وصحيًا وفنيًا، ولكن الفساد السياسي والمالي يؤخر كل الإصلاحات، فضلاً عن ان الخلاف القائم بين وزارتي العدل والداخلية حول ادارة السجون والمسؤوليات حيالها، كل ذلك يجعل من السجون مقتلاً انسانيًا للموقوفين والمحكومين.
ويتابع :الآن تعقد جلسات عبر تقنية "الفيديو كول" ويجري اخلاء سبيل البعض، ولكن للأسف هناك تقصير في مكان معين إن لجهة سوق الموقوفين وإن لجهة عدم توفر تقنية الفيديو في المخافر حيث يكون الشخص موقوفًا، وهذا يعرقل عقد الجلسات وبالتالي يتعطل عمل القاضي الذي يرفض اخلاء السبيل قبل استجواب الموقوف. فتعذر الاستجواب مرارًا وتكرارًا غالبًا ما يكون إما بسبب الكورونا أو عدم وجود آليات لنقل السجناء وبالتالي عدم السوق، أو بسبب عدم توافر التجهيزات التقنية في أمكنة الاحتجاز .وقد نصت المادة 47 الجديدة من قانون اصول المحاكمات الجزائية المعدلة بالقانون 191 على وجوب ان تكون أماكن التوقيف في النظارات مجهزة بتسجيل صوتي وتلفزيوني للتأكد من عدم تعرض الموقوف لأي اعتراف بالقوة ولتسهيل استجوابه عن بعد.
ويضيف: في زمن الكورونا هناك تساهل من بعض القضاة الذين يطبقون النصوص القانونية حتى قبل استنفاذ المهل القانونية لان النص القانوني أجاز التوقيف بحدود هذه المهل كحد أقصى، ولم يمنع القاضي من اخلاء السبيل ابتداءً من مرور خمسة أيام على التوقيف اذا ارتأى ضرورة أو مبررا لذلك.
ويختم بزي: يبقى أن هناك مسؤولية كبيرة على القضاة، إذ أن بعضهم يعتبر القضاء وظيفة وليس رسالةً، وهذا النوع من القضاة لا يأخذ بعين الاعتبار الظروف الانسانية للموقوفين ويتعامل معهم كنصف بشر وغالبًا ما يغيب عن مكتبه لعقد جلسات التحقيق والبت بطلبات اخلاء السبيل، بل أن بعضهم لا يطيعه قلمه لتوقيع قرار اخلاء السبيل من أساسه. فالمطلوب حل جذري لهذه المعضلة عبر:
1-اقرار خطة تطوير وبناء السجون
2- ترحيل المحكومين الاجانب ولا سيما السوريين منهم لاكمال انفاذ العقوبات في بلادهم والتخفيف من الاكتظاظ.
3- العمل على الجانب الانساني لدى بعض القضاة للتعامل مع الموقوف على انه انسان وليس شيئاً كي لا نقول وصفاً آخر.
لقد دفعت هذه المعطيات الموقوفين، الذين بعضهم بريء ومظلوم وبعضهم الآخر ربما دام حجزه وقتًا أطول بكثير مما سيمكثه فيما لو جرت محاكمته بلا إبطاء، إلى القيام بعملية الهروب الكبير ولا زال بعضهم متوارٍ عن الأنظار حتى هذه اللحظات، وربما سيبقى كذلك حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولاً.
من هنا يُطرح السؤال على كل السلطات المعنية ولا سيما القضاء المختص: لماذا لا يتم استجواب ومحاكمة الموقوفين بشكل طبيعي وبلا تأخير؟ هل يوجد في هذه الحياة أغلى من الحرية؟ وهل حجز حريات الأشخاص بسبب الإهمال أمر عادي؟ أليس فيه محاذير على جميع الصعد؟ وهل تنتظرون، لتتهربوا من مسؤولياتكم، إقرار قانون العفو "التحاصصي" ليريحكم من عمل أنتم مسؤولون عنه أولاً وآخرا؟
"إنّ من يتردد في انزال العقاب يضاعف عدد الأشرار"(بوبليليوس سيروس).