رأي

من المحرقة إلى غزة… ومن غزة إلى ما بعدها (زينب إسماعيل)

 

زينب اسماعيل – الحوارنيوز

 

غزة اليوم ليست مجرد مدينة محاصرة، ولا ساحة حرب عابرة. هي معركة وجود، اختبار قاسٍ للضمير الإنساني، ومرآة تعكس بوضوح أنّ المشروع الصهيوني ليس صراعًا على أرض فقط، بل مشروع توسّع ينهل من ذاكرة الضحية ليبرّر جريمة الجلاد.

 

اليهود الذين عاشوا قرونًا في أوروبا كغرباء حملوا معهم ذاكرة الاضطهاد. وفي فلسطين، حوّل قادتهم هذه الذاكرة إلى سيف مشرّع فوق رقاب شعب آخر. من رحم المذابح والتهجير وُلدت فكرة الدولة العبرية، ليست ملاذًا آمنًا فحسب، بل حلمًا توسّعيًا يبرّر نفسه بالماضي. المحرقة لم تصبح مجرد جرح يذكّر بفظاعة العنصرية، بل سلاحًا سياسيًا يُشهر في وجه كل من يجرؤ على مساءلة إسرائيل.

 

هنا ينبثق شعور بالمؤامرة منذ البداية: أنّ هناك قوى صهيونية ويهودية استغلت الاضطهاد والتهجير في أوروبا لتجمع اليهود في دولة واحدة، ليس فقط للحماية، بل لترسيخ مشروع سياسي توسّعي يسيطر على أرض ليست لهم، ويهيمن على محيطها. هذا الشعور بالمؤامرة يتغلغل في كل حدث لاحق: من التخطيط للبناء الاستيطاني إلى توسيع السيطرة، ومن التجارب في غزة إلى النظر نحو جنوب لبنان والجولان.

 

ما يحدث في غزة يكشف هذا التحوّل المرعب: من شعب مضطهد بالأمس، إلى دولة تمارس الإبادة اليوم. عشرات الآلاف من الشهداء، مدن تحوّلت إلى أنقاض، شعب محاصر بين البحر والجدار، فيما الطائرات تمحو ملامح الحياة من سماء القطاع. هذه ليست حربًا، بل محاولة ممنهجة لإلغاء شعب من الخريطة.

 

الأخطر أنّ المشروع الصهيوني لا يتوقف عند حدود غزة. غزة محطة اختبار، مختبر دمٍ يُجربون فيه شراسة النار، صمت العالم، ومدى قدرة الشعوب على التحمّل. وما إن يفرغوا من غزة، حتى تتجه أعينهم نحو جنوب لبنان، حيث المقاومة تُقلق أحلام التوسّع، وإلى الجولان السوري المحتل منذ عقود، حيث الشهية ما زالت مفتوحة. المشروع الذي بدأ تحت شعار “أرض الميعاد” لم يكن يومًا قانعًا بالحدود، بل يتغذّى على وهم قديم: من النيل إلى الفرات.

 

التاريخ يعلمنا أنّ الكيان الذي وُلد من رحم مأساة لا يكتفي بأرض صغيرة. هو كيان يبحث عن شرعية عبر التمدد، عن بقاءٍ عبر الحروب، وعن هوية عبر محو الآخر. لذا، ما يجري في غزة ليس معركة محلية، بل رسالة لكل من يجاور فلسطين: إن صمتّم اليوم، أنتم الهدف القادم.

 

العالم الذي أقسم بعد الحرب العالمية الثانية “لن يتكرر أبدًا”، يقف اليوم متفرجًا على تكرارٍ جديد. الأمس صمت أمام المحرقة، واليوم يصمت أمام غزة. الضحية تغيرت، لكن العبرة واحدة: حين يسكت العالم على جريمة، يمنحها شرعية لتتكرر في مكان آخر.

 

في جنوب لبنان، تشهد القرى التي دُمّرت في الثمانينات والتسعينات أنّ الاحتلال لا يتوقف عند حد. وفي سوريا، حيث الجولان محتلة، الصورة أكثر وضوحًا. من يقصف غزة بلا هوادة لن يتردد بمد يده إلى أراضٍ أخرى متى سنحت الفرصة. والدليل أن إسرائيل منذ أيام قصفت قطر بحجة ملاحقة إرهابيين، كرسالة إلى العالم أنّها تستطيع فعل ما تشاء، دون رادع حقيقي سوى التنديد.

 

هكذا، السؤال أكبر من غزة: هل يقبل العالم أن يتحول الكيان الصهيوني إلى سرطان دائم في جسد المنطقة، يقتات على الدماء ليبقى حيًا؟ وهل نكتفي بالنظر إلى غزة كقضية إنسانية معزولة، أم ندرك أنّها خط الدفاع الأول عن بيروت ودمشق وعمان والقاهرة؟

 

غزة اليوم تقاتل ليس فقط من أجل نفسها، بل من أجل ما تبقى من المنطقة عصيًا على الابتلاع. كل بيت يُقصف، جرس إنذار للجوار؛ كل طفل يُدفن تحت الركام، مرآة لطفل آخر قد يولد قريبًا في الجنوب أو الجولان أو أي أرض قريبة.

 

المحرقة كانت جرحًا إنسانيًا عظيمًا. لكن تحويل هذا الجرح إلى ذريعة لإبادة آخرين هو جريمة لا تقلّ بشاعة. الذاكرة، التي كان يُفترض أن تكون ضمانة ضد التكرار، صارت أداة لشرعنة القتل.

 

           من المحرقة إلى غزة، ومن غزة إلى ما بعدها، الدرس واحد: حين يُترك الظلم بلا حساب، يتمدد. وما لم تنهض الشعوب والدول معًا لوقفه، وما لم تتغير السياسات المجاورة لفلسطين من مصر إلى الأردن، فلن يبقى في المنطقة سوى خرائط جديدة مرسومة بدماء الأبرياء.

 

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى