من العام 1958 حتى اليوم :عملية “الخفاش الأزرق ” لم تنته بعد(أكرم بزي)
كتب أكرم بزي
في العام 1958 طلب الرئيس كميل شمعون من الأميركيين التدخل في لبنان لمنع الحرب الأهلية وبتأييد مشروع دوايت أيزنهاور الذي كان يرمي الى احكام السيطرة على المنطقة، فكان أول تدخل عسكري أميركي في لبنان فيما سمي آنذاك عملية ” الخفاش الأزرق “، ولكن لم يكن لكميل شمعون ما أراد، إذ انقلب الأميركيون عليه وطلبوا منه أن يستقيل، ولتدعم فيما بعد فؤاد شهاب، قائد الجيش الماروني الذي كان يحظى بتأييد الوطنيين اللبنانيين والرئيس الراحل جمال عبد الناصر. وفي العام 1982 عادت قوات المارينز الأميركية إلى بيروت في بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان المدعوم والمخطط له من الإدارة الأميركية (فقد كان وزير الخارجية الأمريكي، آنذاك، ألكسندر هيغ مشاركاً بمخططات هذا الإجتياح)، وقد زعمت الولايات المتحدة أنها أرسلت قوة لحفظ السلام، لكن بحقيقة الأمر كانت تقف إلى جانب الإسرائيليين. فالولايات المتحدة كانت ترفض التعامل مع منظمة التحرير الفلسطينية، وكانت سورية تُعتبَر دولة تدور في الفلك السوفياتي، ولذلك كان الانخراط معهما مستحيلاً بالنسبة إلى إدارة ريغان في العام 1982، إلا أن الرفض العارم وقتها من قبل القوى الوطنية والإسلامية ومقاومة الوجود الأميركي في لبنان أدى فيما بعد إلى الانسحاب إثر العمليات الاستشهادية التي قامت بها مجموعات إسلامية “الجهاد الإسلامي” ضد “المارينز” وبالتحديد تفجير ثكنات المارينز على طريق المطار في تشرين الثاني من العام 1983، الذي أدى الى مقتل 241 جندياً من المارينز.
منذ العام 1948 تاريخ النكبة، ولبنان يتعرض الى اعتداءات واجتياحات صهيونية بموافقة ومساندة وبأسلحة أميركية الصنع والمحرمة دولياً، فمنذ اجتياح العام 1978 مروراً باجتياح العام 1982 وبالحروب التدميرية وارتكاب المجازر حتى العام 2006 المدّمرة، كلها كانت بمباركة وبموافقة الإدارة الأميركية التي كانت السند الأساسي بالإضافة الى حلفاء الكيان الصهيوني في المنطقة وبتغطية منها، وحتى بتغطية شبه شاملة من المجتمع الغربي والأوروبي، حيث إن كل الادانات التي كانت توجه إلى الكيان الصهيوني لارتكابه المجازر الوحشية بحق الأبرياء اللبنانيين والعرب كانت تواجه بـ “فيتو” أميركي – أوروبي- غربي وبتواطىء بعض الأنظمة العربية التابعة سراً أم جهراً.
بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في العام 2005، عملت الإدارة الأميركية في لبنان على قلب موازين القوى بهدف إحكام السيطرة والاطباق على تفاصيل الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وكان الهدف الأساس تطويق وضرب حركة المقاومة اللبنانية ورأس حربة محور المقاومة في المنطقة، فلم تعدم وسيلة إلا وجربتها، تارة بالتدخلات العسكرية الصهيونية بإيعاز أميركي، وتارة أخرى بالضغط عبر وكلائها في لبنان وسفرائها المعتمدين، فقد أنفقت الإدارة الأميركية 10 مليارات دولار، (هذا ما صرح عنه ديفيد هيل وقبله جيفري فيلتمان)، من تسليح للجيش اللبناني وال “أن جي أوز” (NGO’s) ووسائل إعلام ومواقع الكترونية، ثلث هذا المبلغ ذهب لتسليح الجيش وما زال الجيش لا يملك صاروخاً واحداً يستطيع من خلاله الدفاع عن لبنان تجاه العدوان الصهيوني المتواصل، والجزء الأكبر (70%) ذهب من التمويل الى المنظمات الآنفة الذكر، واستثمارات سياسية في “الجماعات” التابعة لها والتي تدار من خلال سفارة أميركا في عوكر منذ العام 2005 ولغاية الآن. وفي تصريح آخر لأحد الأمراء العرب قال: لقد أنفقنا ما يزيد على 20 مليار دولار في لبنان وأيضا لنفس الهدف، وكل هذه المحاولات باءت بالفشل.
لا يخفى على أحد في لبنان دور السفارات الغربية في الضغط الاقتصادي على لبنان، ومنع دخول العملة الصعبة، والجميع يعلم عن تسلط السفيرة الأميركية على حاكمية مصرف لبنان المركزي والمصارف اللبنانية، ودور السفارة الأميركية بالإيعاز للمصارف اللبنانية بتهريب مليارات الدولارات الى خارج لبنان، ومنع دخول الدواء والغذاء والمساعدات من الدول العربية الشقيقة التي ترغب بالمساعدة، ومنعها بالتدخل المباشر لدى وكلائها وعملائها في لبنان من رفض أي محاولة للتوجه شرقاً (الصين وروسيا وإيران) للاستثمار شبه المجاني، وكل هذا لتأليب الشعب اللبناني ضد “سلاح المقاومة”، لأنه وحده الكفيل بحماية وصيانة ما تبقى من استقلال لهذا البلد، ولفرض توطين الفلسطينيين وتغيير الديموغرافية اللبنانية بإبقاء اللاجئين السوريين، ناهيك عن ترسيم الحدود اللبنانية لمصلحة الكيان الصهيوني، وتبعية لبنان له.
البلد يئن من الجوع، وانقطاع الكهرباء والمياه ومعظم المواد الغذائية الضرورية والأدوية وغيرها… كل هذا يجري بضغط أميركي صهيوني عربي بالحصار والعقوبات التي فرضوها على الشعب اللبناني كافة من دون استثناء! وما جرى، ويجري حالياً، في لبنان من فرض العقوبات الاقتصادية على بعض مكونات المجتمع اللبناني وتأثره المباشر بقانون قيصر وآخره فرض عقوبات على عدد من الشخصيات اللبنانية السياسية والاقتصادية ، ما هي الا سياسة تعتمدها أميركا في صلب سياستها على مستوى العالم أجمع. وما لم تستطع أميركا ان تحصل عليه من خلال التدخل المباشر وبالحروب والضغوط السياسية تحاول ان تمارس لعبة التجويع للحصول عليه ولا يهمها عدد الجياع والأطفال الذين سيموتون في العالم بل المصلحة الأميركية والصهيونية فوق كل اعتبار.
إن الضغوط التي تمارسها الإدارة الأميركية، على شعوب منطقتنا، من اليمن وحتى لبنان مروراً بالعراق وسوريا وإيران، ما هي إلا الحلقة الأخيرة في السلسلة، للوصول الى “عنق الزجاجة”، ومن ثم الذهاب نحو التسويات والتي لا بد منها، لا أحد يرغب بالحروب إلا إذا كان في مأزق، فهل تعاني أميركا من هذا المأزق الآن؟ أم الكيان الصهيوني؟
“الخفاش الأزرق” مستمرة منذ العام 1958 ولكن بألوان متعددة، مرة باستعمال وكلاء الداخل ومرة بالوكيل الصهيوني وعملاؤه، وتارة أخرى بالتدخل المباشر، عسكرياً كان أم دبلوماسياً، والهدف دائماً الاطباق الكامل والمحكم على لبنان وجعله بوابة أمان للكيان الصهيوني، ولكن هذا لم ولن يحصل بإذن الله.