طهران ـ ديانا شمعون
هي ليست المرة الأولى التي “يشيطن” فيها الغرب صورة إيران في العالم، وهي حتماً ليست المرة الأولى التي يشهد فيها بلد ما احتجاجات وتظاهرات شعبية تطالب سلطتها السياسية بتحقيق إصلاحات في جوانب مختلفة… ولكنها بالتأكيد من المرات النادرة التي ينجح فيها الغرب بشيطنة الصورة بشكل كامل، في حربه ومواجهته المستمرة ضد الجمهورية الإسلامية في إيران. قد تكون الأسئلة منطقية: لماذا إيران؟ ولماذا هذه الحرب الشرسة عليها؟ ولماذا تجنيد هذا الكم الكبير من الأدوات في هذه الحرب المفتوحة معها؟
أن تكون في طهران، حتماً هو ليس كما أن تكون خارجها. وجود وفد صحافي في توقيت كهذا، له الكثير من الدلالات والمعاني، في وقت تضج فيه وسائل الإعلام العالمية بأخبار التظاهرات والاحتجاجات في إيران، وتتصدر كبريات الشاشات المصنفة “عالمية”، وتتغنى بالمهنية والموضوعية إلى حد تلقين العالم دروساً في نقل الخبر وتحليل الحدث.
حدسنا الصحافي يدفعنا، كردة فعل أولية بعد وصول طائرتنا، إلى السؤال عن التجمعات والتظاهرات، وقراءة المشهد، وطرح الأسئلة، ولكن المفاجأة كانت أن الحياة أكثر من طبيعية في شوارع طهران، المزدحمة على مدار الساعة، والعابقة بكل أنواع النشاط والالتزام والإصرار.
في الفندق، مؤتمر للنساء تشارك فيه ممثلات عن دول متعددة، وخارج الفندق وسائل إعلام تغطي وعناصر أمنية لا يتعدى عددها أصابع اليد الواحدة. وهنا تندفع الأسئلة بشكل متسارع: أين هي التجمعات التي شاهدناها على الشاشات قبل وصولنا؟ وأين هي الفوضى وأعمال الشغب؟ أين هم الشباب الغاضبون والنساء المطالبات بإلغاء الحجاب؟ أين هي شرطة الآداب؟
نصل إلى “المول” في إطار برنامج الرحلة الذي وضعه المنظمون، لنجد أن في إيران “مولات” لا تختلف عن مولات الغرب بكل تفاصيلها، من الهندسة الخارجية إلى كل الماركات العالمية، وصولاً إلى المقاهي والمطاعم التي تصدح منها الموسيقى الغربية وبصوت عال وكأنك في بلد أوروبي أو أميركي وليس في “الجمهورية الإسلامية الإيرانية”!
نشرب الشاي بالزعفران، كجزء من ثقافة إيرانية لا تدخل في إطارها القهوة التي ندمنها في بلادنا، لنتوجه بعدها إلى مكتبة عملاقة يطغى عليها الخشب المزخرف، ما يزيد إلى عبق المكان سحراً يأخذك إلى أصقاع العالم من خلال تعدد الكتب الموزعة بحسب انواعها ولغاتها.
أقف مذهولة، وأغوص في دفء المكان وسحره وهدوئه، وكأنني جزء من مشهد في رواية أقرأها. هنا تشعر برهبة المكان وعظمة التاريخ ورسوخ الثقافة.
مؤامرات كثيرة حيكت ولا تزال ولكنها اصطدمت بدولة قوية وقادرة، والأهم أنها ثابتة ومتماسكة.
في إيران حضارة وثقافة حاضرة، وبقوة ممتدة من تاريخ طويل مضى. أضحك في سري على جهل الكثيرين في بلادي، واتمنى للحظة أن نمتلك جزءاً ولو ضئيلاً من ثقافة لا نمتلكها، وتاريخ مليء بكل أنواع الانقسام والتبعية، ونتبارى في إعطاء الدروس لشعب ثار على شاه متأمرك، وأنتج ثورة عظيمة وقفت في وجه الظلم والتبعية وبنت جداراً محكماً للسيادة والحرية.
إلى لقاء مع المتحدث باسم القوات المسلحة ابو الفضل كرجي نتوجه ضمن المواعيد المقررة في إطار زيارتنا. ندخل إلى القاعة المقررة للقاء حيث تستقبلنا زهور وضعت بعناية، كما كلمات اللواء شاكرجي التي حاول انتقاءها بما يليق مع الأسئلة المطروحة وموضوع الحدث. بصوت هادئ وصلابة تعكسها بزته العسكرية، يرحب بنا بحفاوة راقية، كيف لا، ونحن الضيوف اللبنانيون الذين صنعوا رايات نصر واعتزاز، وسجلوا بطولات لأمة لم تنتصر يوماً في صراعها مع عدو غاشم ومغتصب.
نطرح الأسئلة بكل حرية، وتأتينا الأجوبة بكل وضوح. و”لأن الشعب هو ولي نعمة المسؤولين”، يؤكد اللواء شاكرجي ضرورة أن يستمع المسؤولون إلى مطالب شعبهم المحقة، مع الإشارة إلى حجم التهويل والتضخيم الاعلامي الذي يعمل عليه الغرب لاستغلال التظاهرات، ودور الدول التي دخلت على خط المطالب للعبث بأمن إيران، والدفع باتجاه الفوضى وأعمال الشغب، من دون أن يغفل إرسال رسالة واضحة عن دور إيران في حماية أوروبا من خلال محاربة الإرهاب التكفيري والقضاء على المجموعات المسلحة، “وإلا لكانت داعش اليوم في شوارع أوروبا تنتهك اعراض نسائها وتستبيح سيادتها”.
في حضرة اللواء، شعور بالقوة، من خلال اللهجة الحاسمة في الرد على سؤال يتعلق بالعدو الإسرائيلي وإمكانية أن يشن ضربة عسكرية ضد الجمهورية الإسلامية، ليأتي الجواب حاداً كالسيف بأن إسرائيل أجبن من تنفيذ تهديداتها ضد الحرس الثوري.
وبعيون لامعة ينظر إلينا في معرض حديثه عن علاقة إيران بلبنان، ليؤكد بأننا “روح واحدة في جسدين”؛ روح ترفض الخنوع والاستسلام وتقف إلى جانب المستضعفين في الأرض من منطلق إنساني بحت وعقيدة ثابتة لا مكان للجبناء فيها.
أما عن العلاقة مع المملكة العربية السعودية فإن يد إيران ممدودة وقنوات الحوار مفتوحة، ما يشي بأن الأمور ذاهبة باتجاه التبريد وليس التصعيد في المنطقة.
وبثقة العارف ببواطن الأسرار يختم اللواء شاكرجي اللقاء بالحديث عن قدرات إيران العسكرية وتطورها، البرية منها والبحرية والجوية، ليكشف بأن الوجود العسكري البحري يطال كل البحار والمضائق، وأن إيران استطاعت أن تطوّر قدراتها العسكرية والعلمية لتكون بمصاف الدول المتقدمة والعظمى، مع الإشارة إلى التعاون العسكري مع روسيا والذي بدأ قبل اندلاع الحرب الأطلسية في أوكرانيا.
وكما الحفاوة في بداية اللقاء، كذلك الحفاوة في ختام اللقاء مع كثير من الزعفران والزرشك.
وللحديث تتمة..