منعطف 2003: الانحدار الأميركي بدأ في العراق
الحوارنيوز – الأخبار
تحت هذا العنوان كتب وليد شرارة في الأخبار يقول:
هل تصوَّر أصحاب مشروع «إعادة صياغة الشرق الأوسط»، أي ترسيخ سيطرة أميركية حصرية عليه، من محافظين جدد وتقليديين، بأنه سيأتي يوم تتحوّل فيه الصين إلى لاعب اقتصادي وسياسي وازن في الإقليم، إلى درجة رعاية مصالحة إيرانية – سعودية؟ هل عَرف هؤلاء أن الحرب على «الإرهاب»، في أفغانستان وفي العراق، سترتِّب على الولايات المتحدة أكلافاً باهظة، مادية وبشرية وسياسية، و«ستغرقها في الشرق الأوسط»، ما سيفسح المجال أمام تسارُع صعود الصين وعودة روسيا على الصعيد الدولي؟ لقد أضحى قطاع مُعتَبر من النُخب الأميركية، في الحزبَين الديموقراطي والجمهوري، يقرّ بأن هذه الحرب كانت «خطيئة» استراتيجية كبرى بالنسبة إلى الولايات المتحدة، وبأن تداعياتها على مصالحها وموقعها في المنطقة والعالم كانت كارثية بكلّ ما للكلمة من معنى. لكن التفسيرات السائدة حول الأسباب التي أدّت إلى ارتكاب هذه «الخطيئة»، وبينها «غطرسة القوّة» لدى أقطاب إدارة بوش الابن، والقناعة «المثاليّة» بإمكانية تصدير الديموقراطية، تغيِّب في غالبيتها دور اللوبي الإسرائيلي في الدفع إليها. فباستثناء الأكاديميَّين جون ميرشايمر، وستيفن والت، في كتابهما الشهير «اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأميركية»، يفضّل السواد الأعظم من الخبراء والباحثين، الذين ينتقدون بوعي اليوم قرار الحرب على العراق، تجاهُل دور هذا اللوبي في الإعداد لها، ربّما خوفاً من أن يُتّهموا بتبنّي صيغة مستحدثة من صِيَغ «نظريّة المؤامرة».
لكن مراجعة الوقائع لا تَدَع مجالاً لأيّ التباس: الحرب على العراق، وما تلاها من عمليّة تفكيك منهجي لمؤسّسات الدولة العسكرية والأمنية بقرار من الاحتلال الأميركي، والصراعات الأهلية والمذهبية التي ترتّبت على ذلك، كانت مشروعاً إسرائيلياً في الأساس. فسياسات الهيمنة المعتمَدة من قِبَل الولايات المتحدة في طول جنوب العالم وعرضه، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، قامت على السعي إلى التحكُّم بجيوش بلدانه والسيطرة من خلالها على مصائرها ومقدّراتها. الجديد في العراق، في عام 2003، كان مسارعتها إلى تفكيك المؤسّسة العسكرية على الرغم من أن جاي غارنر، الحاكم العسكري الأميركي الذي فُرض على هذا البلد بعد احتلاله، كان معارِضاً لهذه الخطوة لخوفه ممّا سينجم عنها من فوضى وتنازع داخلي. وإذا عدنا إلى النظريات التي روّجها المحافظون الجدد آنذاك، كنورمان بودوريتز، وبيل كريستول، وبول وولفوفيتز، وروبرت ساتلوف، عن «الفوضى البنّاءة» ودورها في إنتاج ظروف ملائمة لـ«التغيير الديموقراطي»، يصبح من الواضح أن هدفهم المنشود كان تدمير الدولة العراقية وتمزيق وحدة المجتمع على أُسس طائفية، والسعي إلى نشر «العدوى» في البلدان العربية المجاورة، لإضعافها في مقابل إسرائيل، وتعزيز موقع هذه الأخيرة. لكن هذه السياسة، التي غَلّبت المصالح الإسرائيلية كأولوية على تلك الأميركية، هي التي قادت إلى تورّط واشنطن في حرب مديدة ضدّ مقاومة شعبية عراقية متعدّدة الخلفيات، وإلى مساهمة دول وطنية في الإقليم كسوريا وإيران في دعم هذه الأخيرة، ليتحوّل الاحتلال الأميركي للبلاد إلى فخّ استراتيجي يستنزف قدرات واشنطن ويُفشِل مشاريعها.
يَحكم منطق «غطرسة القوّة» السياسة الخارجية لواشنطن إلى الآن
الفشل الأميركي الذريع في العراق، ومن بعده في أفغانستان، وإنْ قادا إلى تبلوُر ما يشبه الإجماع في أوساط النخب السياسية والرأي العام حول ضرورة تجنُّب التورّط في حروب مباشرة مديدة ومكلِفة، إلّا أنهما لم يؤدّيا إلى التراجع عن منطق «غطرسة القوّة». صحيح أن الصين باتت مصنّفة تهديداً استراتيجياً رئيساً بالنسبة إلى الولايات المتحدة، منذ خطاب أوباما عن «الاستدارة نحو آسيا» أمام البرلمان الأسترالي، في أواخر عام 2012، لكن الأخيرة اتّبعت في الآن نفسه سياسة معادية لروسيا عبر التوسيع التدريجي لحلف «الناتو» شرقاً. تتناقض هذه المقاربة مع تلك التي اعتمدتها واشنطن في سبعينيات القرن الماضي، وهي كانت في أوْج قوّتها، عندما قرّرت تقديم عرض سخي للصين بشراكة متعدّدة المجالات، وكانت علاقاتها متدهورة مع الاتحاد السوفياتي، لكسْبها إلى جانبها في صراعها مع هذا الأخير. لم تقدّم الولايات المتحدة مثل هذا العرض لروسيا، في مرحلة ما بعد تحديدها الصين تهديداً استراتيجياً مركزيّاً، بل وناصبتها العداء، ما أفضى إلى توثيق التعاون بين الدولتَين المستهدفتَين من قِبَلها.
يَحكم منطق «غطرسة القوّة» السياسة الخارجية لواشنطن إلى الآن، فنراها تحارب روسيا بالوكالة في أوكرانيا، وترفع منسوب التوتّر بينها وبين الصين في مضيق تايوان، وتُجري مناورات عسكرية مشتركة مع إسرائيل تحاكي ضرْب منشآت نووية إيرانية. في 2002، توقّعت مجموعة من المفكرين، وبينهم إيمانويل تود في كتابه «ما بعد الإمبراطورية»، وإيمانويل فالرشتاين في مقاله المعنون «سقوط النسر الأميركي»، أنْ ينجم عن هذا المنطق وما سيستتبعه من غزو للعراق تسارعاً في الانحدار الأميركي. أكدت التطوّرات صحّة هذه التوقّعات، وهُزم المشروع الأميركي على أيدي مقاومة شعبية. واشنطن تقف اليوم في مقابل قوى كبرى دولية وإقليمية، وفي ظروف عالمية سِمَتها الرئيسة رفْض انصياع بلدان الجنوب لإملاءاتها، على عكس ما كانت عليه الحال في 2003. عدم العزوف عن الغطرسة سيعني صيرورة الانحدار سقوطاً نهائياً.