رأي

لبنان بين التفاوض والسلا.ح والإعمار: وطنٌ على حافة الرماد (زينب إسماعيل)

 

زينب اسماعيل – الحوارنيوز

 

يعيش لبنان اليوم لحظة تشبه الوقوف على شرفةٍ تطلّ على رمادٍ مشتعل.

فبعد اتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان و”إسرائيل”، تستمر حربٌ غير معلنة رسميًا، لكنها أكلت أطراف البلاد منذ شهور، وتركت وراءها قرى مهدّمة، واقتصادًا متعبًا، وذاكرةً مشحونة بالأسئلة.

شعبٌ مشرّد لا يستطيع العودة إلى أرضه، وأطفالٌ في منفى عن حياتهم المعتادة، وضغطٌ نفسيّ يرافق عملية انتظارٍ لا تُعرف نتائجها.

 

وفي وسط هذا الركام، عاد الحديث عن التفاوض مع إسرائيل ليشقّ الرأي العام كما يشقّ البرقُ ليلًا كثيفًا.

 

فالبعض يرى أن التفاوض المباشر ضرورة لإنهاء النزيف وتثبيت معادلات الردع ضمن اتفاقٍ واضحٍ يضمن السيادة ويحفظ الأمن، فيما آخرون يحذّرون من أي تطبيعٍ مموّه، ويفضّلون بقاء أي حوارٍ، غير مباشر وعبر وسطاء دوليين، حتى لا يُكسر المبدأ التاريخي للمواجهة مع العدو.

وبين الموقفين، يقف لبنان أمام امتحانٍ معقّد: كيف يحافظ على كرامته وموقعه المقا.وم، وكيف يمكنه أن يُطبّع ودماء الآلاف لم تجف بعد؟ وهل يفتح هذا التفاوض نافذةً نحو الاستقرار الذي يحتاجه ليبقى حيًّا؟

 

لكنّ التفاوض لا يمكن فصله عن السلا.ح، ذاك الملف الذي لا ينام في الذاكرة اللبنانية.

فوجود سلا.ح المقاو.مة هو ما يمنح لبنان قوّة الردع، لكنه أيضًا ما يجعل الدولة في نظر البعض منقسمة بين جيشٍ رسمي وسلا.حٍ خارج الإطار الحكومي.

ومن هنا، برزت خطة «درع الوطن» كاقتراحٍ لإعادة تنظيم هذا الوجود وإخضاع السلا.ح لسلطة الدولة ضمن رؤيةٍ أمنية وطنية شاملة.

إلا أنّ الحساسية الطائفية والسياسية تجعل من هذا الملف أكثر تعقيدًا من مجرّد قرارٍ إداري، ففي لبنان لا يُنزع شيء من الميدان إلا بموازاة تسويةٍ إقليمية كبرى، والكل يدرك أنّ الوقت لم يحن بعد لتلك التسوية.

 

في موازاة ذلك، لا ينتظر الاقتصاد اللبناني أحدًا.

فالبنك الدولي خفّض توقعاته للنمو إلى 3.5% فقط لعام 2025، في ظلّ تآكل القدرة الشرائية، واستمرار تهريب الأموال، وانعدام الإصلاحات الفعلية.

ومع كل يومٍ يمرّ بلا حكومة فاعلة أو خطة إنقاذ واقعية، تتآكل الثقة وتذوب الطبقة الوسطى بين فقرٍ ماديّ واغترابٍ نفسيّ.

ومع ذلك، يتحدث المسؤولون عن إعادة الإعمار وكأنها وعدٌ جديد فوق أنقاضٍ لم تُرفع بعد.

 

فالإعمار في لبنان ليس مجرد بناء حجرٍ فوق حجر، بل هو اختبارٌ للنوايا:

هل ستكون عودة البناء بدايةً لاقتصادٍ منتج وعدالةٍ مناطقية، أم مجرّد فرصةٍ جديدة للفساد وتقاسم الحصص تحت شعار “إعادة الحياة”؟

 

ومع كل هذه الجبهات المفتوحة على رأس اللبنانيين، بدأت المناوشات الانتخابية والتجييش الطائفي يستعران مجددًا.

يكفي أن تُرمى قنينة مياه حتى تُفتح أبواب الفتنة، وكأن اللبنانيين لم يتعلموا بعد من مآسيهم السابقة، ولم يعيشوا بعد مأساة الحروب المستمرة بأشكالٍ مختلفة.

 

لبنان اليوم عالق بين جبهاتٍ متداخلة:

جبهة النار على الحدود التي لم تنطفئ، وجبهة النقاش حول السلا.ح والسيادة، وجبهة الانهيار الاقتصادي الداخلي التي تؤثر على الإعمار وعودة النازحين، إضافةً إلى معضلة القانون الانتخابي الذي يحاول كل طرف صياغته على هواه سعيًا لمكاسب خاصة.

 

ومع ذلك، ما زال الناس هناك يجدون في رماد الأيام ما يشبه المعجزة — صوت فيروز في الصباح، ضوء شمعة في بيتٍ مهدّم، أو طفلٌ يكتب على جدارٍ مكسور: “سنرجع يومًا.”

 

لبنان، كما يبدو، لا يفاوض فقط على أرضه أو أمنه، بل على معنى بقائه نفسه.

فالتفاوض الحقيقي ليس في الغرف المغلقة، بل في قدرة هذا البلد الصغير على أن ينهض من بين الركام مرةً أخرى، وأن يظلّ، رغم كل شيء، وطنًا يُحبّ لا يُباع.

 

لا يمكن لأيّ تسوية أن تكون عادلة ما لم تُكرّس أولًا حقّ الناس في العودة إلى قراهم، ورفض أيّ شكلٍ من أشكال التطبيع مع من قتل أبناءهم ودمّر بيوتهم.

السلا.ح يجب أن يبقى في يد المقاو.مة، لا كخيارٍ حرب، بل كخيارٍ للبقاء، إلى حين بناء جيشٍ ودولةٍ قادرين فعلًا على حماية الحدود والدفاع عن الأرض بقرارٍ سياديّ مستقل.

أما الإصلاح السياسي، فلا طريق له سوى قانونٍ انتخابيّ خارج القيد الطائفي، يجعل لبنان دائرةً وطنية واحدة، ليُنتخب الناس على أساس الكفاءة والرؤية لا المذهب والزعيم.

عندها فقط يمكن أن يولد لبنان الذي يشبه حلم أبنائه لا مصالح المتحاصصين فوقه.

 

فلبنان يشبه شجرةً قديمةً على حافة الجرف — جذورها مغروسة في صخر الوجع، وأغصانها تتشبّث بالسماء.

تمرّ عليها الرياح من كل الجهات: رياح السياسة، والسلازح، والتفاوض، والإعمار، لكنها لا تنكسر.

كلّما احترقت أوراقها، نبتت من رمادها أخرى، كأنها تتذكّر في كل موسم أنّ البقاء ليس قرارًا سياسيًا، بل معجزة وطنٍ يرفض أن يموت.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى