مغزى أن تكون فلسطينياً (تغريد عبد العال)
الحوارنيوز – صحافة
تحت هذا العنوان كتبت تغريد عبد العال* في صحيفة الأخبار:
أي شمس ستصحو بعد اليوم عادية، بكل خفة. لقد حملت غزة وحدها أثقال البشرية. وقف ألمها يتفرج على صمت الكون وماذا شاهدت. لا أعرف، بل كما شعر الكثيرون، أن العالم صغير جداً. إنه زقاق في أحد مخيماتها. التاريخ ينكمش ليصبح مستشفى ومكتبة وكنيسة ومتحفاً. لقد علمتنا غزة معنى أن ننظر في عيونها ليس لنرى آلامنا كما يحدث في كل شيء ذي معنى. بل إن كل جراحنا ما هي إلا بقايا شقوق مؤلمة من فصول إبادتها. الماضي الذي نمسك يده لكي نتذكر بطولاتها، آن له أن يسرد الحكاية مرة أخرى، وكل طرقاتنا في الماضي عليها أن تصحو وتسلك تفرعاتها التي تشق طبقة الغبار عن الدرب الأصيل.
غزة هي مغزى الوجود. لم نعرف كم تبقى من كلمات وقفت لتشهد في معاجم اللغة على القتل، وكيف يصبح هذا التوحش مصيراً مفتوحاً. قلبها الوحيد الذي يسكنه أطفال يدركون كيف يقترب الموت من الولادة، سريعاً مثل حدث واحد. ويعرفون أن لعبة الغميضة التي يلعبونها كثيراً، هي هذه المرة مع الموت حيث يبحث عنهم وهو يغمض عينيه وقلبه وضميره.
هناك بحر كبير من الآلام التي فتحت في كوة الموج الكثير من الأسئلة. فأطفال الرماد سيخرجون طيوراً من نوع آخر، ليست هذه الطيور هي الفينيق، سنبحث الآن عن أسماء لم نكتشفها، عن سيرة الجوارح المنسية في كتاب الطيور أو كتاب الكائنات المتخيلة لبورخيس. هل نسي بورخيس أن في غزة طيوراً متخيلة أصلها طفولة خرجت من رماد هذا العالم؟
وهل سترون أيها الكتّاب في كل مكان أن أمطار غزة صارت لسقاية العطش الذي لم نسمع عنه إلا في أسفار الغزيين؟
هل سيقرأ الناس في عواصم البلاد التي رأت كل شيء ما هو هذا العمى الأخير يا ساراماغو الذي أغلق عيون الكون عن قتلٍ لا كلمة تصفه أو ترادفه مع ترنيمة نساء يبكين وهن يعجنّ رغيف الخبز المتبقي لعائلة تبقّى منها أيضاً شخصان؟
ما هو الجوع يا كنوت هامسون؟ وعلى فكرة، كنت أبحث عن معنى الجوع في تفاصيل كثيرة وفعلاً أقنعتني. لكن هناك في مخيم جباليا وخان يونس، صار للجوع لغة، وللألم لغة وحتى للمرح في وقت الوجع صيغة أخرى ورواية أخرى. غزة هي مغزى الغارنيكا في جداريات العالم وضواحي حارات المدن المهمشة، والمنسية. وهي مغزى «ارتجالات الحياة» وجمل «المحامل» وهي فكرة «أم سعد» التي رتبت بيت غسان وأفكاره. غزة هي خفة الأبدي في اليومي، وأثر الفراشة وحزنها العادي وقد نثر يومياته على معنى الزمن، فأصبح زمن غزة استثنائياً إلى أبعد الحدود، فهو الضوء الأزرق وكل حجر فيها يقول: استيقظ كي تحلم…
غزة هي مغزى أن تكون فلسطينياً، أو تكون إنساناً لتواجه الغزاة الذين يقتلون الذاكرة، هو أن تكون شاعرة تحاول أن تلفظ كلماتها الأخيرة مثل الندى يا هبة أبو الندى، لتقول إننا عبرنا من هنا، أن ترسم لوحتك فتصل ألوانها قبلك وتغادر المجزرة بكامل معناك ولو كان جسدك بقايا ألوان جافة.
إنها نقطة الدم على قميص هذا العالم يا طه محمد علي. إنها صورة المكان المتبقية يا جمانة الحسيني، لأن معنى المكان قد تغير أيضاً وحتى البيوت والشجر والأحصنة. فهل في إمكاننا الآن أن نجيب غسان لماذا لم نقرع جدران الخزان، أم أن جدران العالم قد تحولت إلى إشارات مرور سيعبر شعب غزة بالشموع لتصبح الحقيقة شفافة ويتضح معنى الأسر الحقيقي والحب الحقيقي والألم الحقيقي في إسمنت اللغة والوجود؟
* كاتبة وشاعرة فلسطينية