معوقات المجتمع المدني في عالمنا العربي(عدنان عويد)
د. عدنان عويّد*
في المفهوم :
إن المجتمع المدنيّ في سياقه العام، هو المجتمع الذي تجاوز في علاقاته الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة، مجتمع العشيرة والقبيلة والطائفة، وهو المجتمع الذي راح يُحكم بالقانون ودولة المؤسسات، ولم يعد يحكم بالعرف والعادة والتقليد, وهو المجتمع الذي أصبحت فيه المواطنة جوهر العلاقة بين الفرد والمجتمع من جهة، وبين الفرد والمجتمع والدولة من جهة ثانية، وفي هذا المعطى تضعف التراتبيّة إلى حد كبير في تحديد طبيعة هذه العلاقة من الناحيّة الاجتماعيّة والساسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة داخل المجتمع المدنيّ، كما تسود في هذا المجتمع الثقافة العقلانيّة التنويريّة التي تركز على القيم الإنسانيّة واعتبار الإنسان سيد قدره ومصيره، وتُقصى فيه ثقافة النقل والمطلق وتقديس الأفكار والأشخاص والثبات والسكون والتحجر والشكلانيّة. أو بتعبير آخر إقصاء ثقافة الأموات والهروب من الدنيا والتفكير بعذاب القبر والبحث عن حور العين وأنهار السمن والخمر والعسل. أي الغاء ثقافة القبور, وتبني ثقافة الأحياء.
أمام هذه المعطيات المتعلقة بمفهوم المجتمع المدنيّ، يطرح السؤال التالي نفسه علينا وهو: أين واقعنا العربيّ بكل مستوياته أو مكوناته من المجتمع المدنيّ؟. وما هي معوقات تجسيد قيمه وعلاقاته في واقعنا العربيّ المعيش.؟.
لا شك أن الاجابة على هذين السؤالين المشروعين ستقر، بأننا بعيدون كثيراً عن عالم هذا المجتمع، ونحن لم نصل إليه بعد في علاقاتنا السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة، لا على مستوى حياة الفرد, ولا حياة المجتمع والدولة أيضاً. فنحن لم نزل نعيش حياة المجتمعات التقليديّة المشبعة بمرجعياتها التقليديّة، وسياستها القائمة على (العقليّة اللدنيّة / عبادة الفرد) أي الإيمان بدور الفرد الكاريزما إن كان داخل بنية العشيرة أو القبيلة أو الطائفة أو الطريقة الصوفيّة أو الحزب أو قيادة الدولة. أما دولنا فهي دول ما قبل الدول، دول تمثلت في الشكل مهمة الدولة الحديثة، من حيث مؤسساتها وعلمها ودساتيرها وحتى صناديق انتخاباتها، ولكنها في الجوهر بعيدة كل البعد عن جوهر الدولة المدنيّة وبالتالي المجتمع المدنيّ. فالدساتير في مضامينها النظريّة عند الكثير من دولنا العربيّة مليئة بمفاهيم الحريّة والعدالة والمساواة ودولة القانون والمواطنة، ولكنها في التطبيق بعيدة كل البعد عن هذه المضامين، حيث تتجلى في الممارسة سياسات القهر والظلم والاقصاء والاستبداد والتحكم بالسلطة ومحاربة المختلف، وعلى مستوى البرلمانات، فهي تجري بطريقة تسويقيّة محددة نتائجها سلفاً, إما عن طريق التعيين من قبل الحاكم بأمر الله، أو تجري بطريقة ديمقراطيّة صوريّة مدروسة وموجهة لخدمة الحاكم بأمر الله أيضاً. أما على مستوى الاقتصاد فهناك أنماط متعددة للإنتاج يغيب فيها وضوح الخط الاقتصاديّ، فلا هو اقتصاد سوق رأسماليّ، ولا هو اقتصاد سوق اشتراكيّ أو اجتماعيّ، بل هو اقتصاد سوق ريعي من جهة, واقتصاد سوق تحكمه الهجانة والقصور والابتعاد عن مصالح الشعب في جوهره منجهة ثانية, كونه يعمل على خدمة القوى البرجوازيّة البيروقراطيّة التي تتحكم بالمواقع السياسيّة والإداريّة الهامة في الدولة ومن يدخل في نطاقها وخدمتها من البرجوازيّة الطفيليّة في المجتمع. أما على المستوى الأيديولوجي فهي دول ومجتمعات لم تزل محكومة سياسيّاً وفكريّاً بأيديولوجيات أثبت الزمن فشلها وعدم قدرتها على مجاراة حركة الواقع، لذلك نجد أن حواملها الاجتماعيين من رجال دين أو رجال سياسية عملوا وبشكل قسريّ على ليّ عنق الواقع كي ينسجم مع أيديولوجياتهم المفوّته حضاريّاً.
هذا غيض من فيض التردي والتخلف في واقع دولنا ومجتمعاتنا العربيّة التي تشكل عوامل عرقلة أمام تحقيق المجتمع المدنيّ والدولة المدنيّة، لذلك لا بد لنا من طرح رؤى وأفكار واتخاذ سلوكيات تنسجم مع الواقع المعيش أولاً، وتعمل على تغيير هذا الواقع دائما لمصلحة الفرد والمجتمع ثانياً. فنحن بحاجة لفكر عقلانيّ بعيد عن الفكر الأيديولوجيّ الجامد والمتحجر… مثلما نحن بحاجة لرؤى فكريّة سياسيّة واقتصاديّة وقانونيّة وإداريّة ومجتمعيّة تطابق واقعنا وتراعي خصوصياته وإمكانيات تحقق نهضته وتقدمه، وهذا لن يتحقق إلا من خلال حوامل اجتماعيّة مؤمنة بوطنها وشعبها ومصالحهما، وقادرة من خلال وصولها إلى السلطة عن طريق الشعب، وبوسائل انتخابيّة نزيهة، أن تدير شؤون البلاد والعباد لإخراجهم من مازق التخلف البنيويّ الذي هم فيه، وبالتالي محاسبة من يفشل في تحقيق هذه المهمة وإقصائه. وهذا الأمر لن يأتي بالنوايا الحسنة ولا بالدعاء وكثرة السجود وصلاة الاستسقاء ، بل يأتي من خلال اعتمادنا على العقل النقدي في دراسة الواقع وإمكانية تحليله وإعادة تركيبه على أسس علميّة تضع مصالح الشعب أولاً وليس مصالح قوى حاكمة انانيّة مهما تكن مرجعياتها, وهذا لن يتحقق أيضاً بعقلية الوصايا على الشعوب, وإنما بعودة الدولة إلى حضن المجتمع الذي هو وحده من يقدر مصالحه وخاصة إذا توفرت له قيادات وطنية شريفة لا تحركها مصالحها الماديّة والمعنويّة الضيقة وفي مقدمتها شهوة السلطة. لذلك لا بد من حراك شعبيّ غير حراك ما سمي بثورات الربيع العربيّ, الذي مارست حوامله الاجتماعيّة كل موبقات الثورات، فكانت النتيجة كره الشعب للثورة وللديمقراطيّة وللحريّة وللعلمانيّة وللدين معاً، لتعود بعض الدول العربيّة كمصر وتونس والجزائر إلى حكم العسكر من جديد بعد ان أسقطت هذه الثورات أنظمتها الشموليّة.. نحن بحاجة لحراكات شعبيّة معقلنة لا تستخدم السلاح والعنف السلبيّ، وإنما حراكات سلميّة تقول للقوى المتمسكة بالسلطة بعقليّة وصائيّة, إن سياساتكم ليست حكيمة وليست مؤمنة بالديمقراطيّة والتعدديّة واحترام الرأي والرأي الآخر, ولا مؤمنة بالعلمانية ودولة الموطنة, وأنها لم تستطع بناء الإنسان بناءً عقلانياً رغم كل ما قمتم به من إنجازات على المستوى الماديّ, من بناء مستشفيات وجامعات وبناء قاعدة خدماتيّة واسعة, وغير ذلك من منجزات, لقد فاتكم بناء الإنسان وعقله, أي فاتكم كيف تعلمونه حب الوطن والمواطنة والتمسك بهما, وفاتكم كيف تعلمونه التفكير العلميّ النقديّ, فراح أبناء الشعب وبإرادتكم وتوجهاتكم نحو الفكر الغيبيّ اللاهوتيّ الأسطوريّ الذي اعتقدوا بأن ما يطالب به هذا الفكر هو الحقيقة, لذلك رفضكم الكثير من أبناء الشعب … رفضوا سياساتكم ونظام دولتكم ونفاقكم, وراح الكثير منهم يحمل السلاح ضدكم عندما وجد ابتعادكم عن قيم الدين التي تعلموها في جوامعكم ومؤسساتكم الدينية وعبر دعاتكم الذين اعتقدوا أنهم يسيسون الدين لصالحكم.. لقد علمتموهم مشروع الحاكميّة ورموزها والفرقة الناجية بإرادتكم, فكفروكم وأخرجوكم من الفرقة الناجية, وهذه مأساتكم ومأساة كل الأنظمة التي تلعب على ورقة الدين. أو السياسة البرغماتية النفعيّة الضيقة خدمة لمصالحها, الأمر الذي جعلكم تخسرون اليمين واليسار والوسط معاً, وإن بقي منهم بعض الشرفاء يعمل تحت مظلة حكمكم فهو من باب الإيمان بالوطن والحفاظ عليه وليس الايمان بسياساتكم.
كاتب وباحث من سوريّة