معركة الموازنة:حرب لبنان مع الذات
لم يسبق لوزير مالية في تاريخ لبنان أن وضع الإصبع على جروح الدولة المالية، كما فعل علي حسن خليل في مقابلته المتلفزة الخميس الماضي.وسواء كان الوزير خليل يحمل قسطا من المسؤولية عن هذه تالجروح المزمنة أم لا ،باعتباره وزيرا للمالية منذ خمس سنوات،فإنه من نافلة القول إن المكاشفة والمصارحة التي أطلقها ثبّتت لدى الرأي العام كل المعلومات التي كانت تنشرها وسائل الاعلام،وغالبا ما كانت توصف بأنها "حكي جرايد"، أو يجري تداولها عبر المجالس الخاصة ووسائل التواصل الاجتماعي ،حول الهدر المزمن في موازنة الدولة لجهة الواردات والمصاريف ،خاصة وأن وزير المالية هو أكثر المسؤولين معرفة بالخفايا المالية .
ومن هنا ينتظر أن تشهد مناقشة الموازنة للعام الحالي وإقرارها في مجلسي الوزراء والنواب ،معارك حامية هي أشبه بحرب ضروس،ليس على لبنان هذه المرة ،وإنما هي حرب لبنان مع نفسه،فإما أن يخرج البلد بموازنة غير مسبوقة تكون مدخلا لمكافحة الفساد المستشري ،وإما أن تنتهي هذه الحرب بتسوية تنبئ بانهيارات غير محمودة.
لم يعد خافيا على أحد أن موازنة الدولة للعام الحالي التي تبلغ 27 ألف مليار ليرة لبنانية (18 مليار دولار أميركي)، تتوزع على أربعة أقسام رئيسية أفصح عنها وزير المالية بأرقامها المخيفة:
1- الرواتب والأجور بنسبة 35 بالمائة ،أي ما يزيد عن تسعة آلاف مليار ليرة (ستة مليارات دولار و300 مليون دولار)
2- خدمة الدين العام بنفس المعدل السابق.
3- عجز الكهرباء بمعدل 11 بالمائة ،أي نحو ثلاثة آلاف مليار ليرة (ملياري دولار).
4- إنفاق استثماري وتسيير عجلة الدولة بمعدل 19 بالمائة ،ما يزيد قليلا عن خمسة آلاف مليار ليرة (نحو 3.5 مليار دولار).
وحيث أن المطلوب تخفيض العجز ،فمن الطبيعي أن يطال مقص التخفيض الأقسام الثلاثة الأولى.وعليه يفترض أن تخوض الحكومة حربا مثلثة الاضلاع في مجموعة معارك :
الأولى مع الموظفين في القطاع العام مدنيين وعسكريين ،وقد بدأت هذه المعركة فعليا قبل وصول مشروع الموازنة الى مجلس الوزراء.والواضح أن الحكومة تحاذر الصدام مع أصحاب الدخل المحدود والمتوسط باعتبارهم الكثرة الساحقة من الموظفين،وعليه سوف يطال مقصها أصحاب الأجور المرتفعة والرواتب المتعددة ،وقد هيأ وزير المالية الرأي العام لمثل هذا الاستحقاق.لكن هؤلاء ليسوا لقمة سائغة ،فمنهم نواب ووزراء وضباط كبار،سوف يدافعون عن مكتسباتهم بشراسة .
المعركة الثانية مع المصارف ،وهنا تكمن الحرب الضروس ،إذ أن هذا القطاع الذي يجني أرباحا مذهلة ،لن يتنازل بسهولة ،وهو يملك من عناصر القوة ما قد يدفع الدولة الى الركوع ،أو على الأقل القبول بأبسط التنازلات ،سواء في إقراض الدولة بفوائد مخفضة ،أو لجهة رفع الفائدة على الودائع التي تطال أيضا كبار المتمولين.
المعركة الثالثة في تخفيض عجز الكهرباء ،وهذا يتطلب الاستعجال في تنفيذ خطة الكهرباء ،والإسراع في الجباية المتأخرة سنتين ،بما يعني حربا جديدة مع شركات النفط وأصحاب المولدات وكل المستفيدين من "الكهرباء الموازية ".
المعركة الرابعة تكمن في سبل تحسين الواردات ،وهذا يتطلب منطقيا إما فرض ضرائب جديدة فوق الضرائب التي فرضت في الأعوام الماضية لتغطية سلسلة الرتب والرواتب،وهي تطال جميع اللبنانيين ،أو تحسين الجباية والمداخيل الجمركية وضبط الحدود البرية والبحرية والجوية لمنع التهريب.وهذا يعني جملة من المعارك مع المستفيدين في هذه القطاعات.
في الخلاصة ،إن التمعن في هذه الوقائع يعني بصراحة أن مجلس الوزراء أمام مهمة شاقة تتطلب جرأة غير مسبوقة،فهل تقدم الحكومة على خوض هذه الحرب؟
فلننتظر ونر ..وإن غدا لناظره قريب!