رأي

مظاهر “اللا ولاء” للدولة : سرقات القرن في العراق.. وودائع البنوك في لبنان (جواد الهنداوي)

 

بقلم السفير الدكتور جواد الهنداوي – الحوار نيوز – بروكسل

 

  لا توجد دولة في العالم تخلو من فساد ،وبالمعنى الواسع ، والأصناف المتعددة لمفردة ” فساد ” .

تلوّث الدولة بالفساد يشبه حالة تلوّث الهواء ؛ في أنقى بيئة ، نجد نسبة بسيطة من تلوث في هوائها ،لذلك عمدت الدول المهتمه في التلوث والبيئة إلى نصب اجهزة في المدن لقياس تلوّث البيئة ،ويوجد حد ادني مقبول للتلوث ،وحين يرتفع التلوث إلى اكثر من الحد الادنى المقبول تسارع الدولة إلى وضع السبل السريعة و الكفيلة بالمعالجة .

كذلك الفساد ،نجده في الدول المتقدمة و المحكومة بقضاء نزيه و عادل ،ولكن بنسبة قليلة جداً ومستتر ،و لا يُرى بالعين المُجرّدة ، ومجاله ليست موازنة دولة او وزارة او قطع اراضي او ودائع مصرف معين ،و انما استغلال امتيازات المنصب لاغراض شخصية و عائلية، او لوجود سبع وظائف وهمية في مؤسسة معينة (مثلما حصلَ مع الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك ، عام 2011 ، حين وجّهت له تهمة وجود سبع وظائف وهمية في بلدية باريس عام 1997 ، وحينها  كان عمدة باريس ) ، او وقبول هدايا ذات قيمة من اطراف اجنبية ، او الاشتباه بقبول قرض من مصرف اجنبي مكفول بدولة اخرى ( مثلما حصل للسيدة ماري لوبن ،رئيسة حزب الجبهة الوطنية الفرنسية ،حيث اتهمت بحصولها على قرض مع تسهيلات من دولة روسيا ) .

 قبل ايام ،وَجّهت منظمة اهلية في العراق ،تهتم بحوار الأديان و التاريخ والتراث ،دعوة ،وعن طريقي ،الى المسؤول عن الدائرة المختصة في الاتحاد الأوروبي ( المفوضية الاوروبية ) ، واخبرته بأن إقامته و تذكرة الطائرة ستتكفل بهما الجهة الداعية . قبِلَ الدعوة ولكن رفض أن تكون تذكرة السفر والاقامة على عاتق الجهة الداعية ، وقال إن التعليمات لا تسمح بذلك ، والاتحاد الأوروبي سيتكفل بنفقات السفر و الإقامة ، وعندما طلبت منه معرفة السبب ،قال : تفادياً وتحاشياً لاي اتهام برشوة او فساد او شراء الذمم .

بقيّ الفساد صغيراً ومستتًرا في الدول المحتكمة لقانون ولقضاء فاعل وعادل ونزيه ، ولكن وللأسف في العراق وفي لبنان ،أصبح كبيراً وعلناً ثُم ” ساد ” ، كما يصفه الشاعر العراقي أحمد مطر حين يقول ” كان الفساد صغيراً ثّم كبِر فساد ” .

أصبح الفساد ، و بأسوأ صوره واشكاله ( سرقة اموال الشعب ) ، ظاهرة مستقرّة في العراق وفي لبنان ، وله بيئته السياسية الخصبة لتنميته ،وآثاره الاقتصادية والاجتماعية والنفسيّة على المواطن والمجتمع و الدولة .

يُصبِح المواطن على خبر وفضيحة فساد ويُمسي على أُخرى . كلمة ” فساد” هي المفردة الأكثر تداولاً بين الناس ،حتى انها (واقصد كلمة فساد ) فازت ،في التكرار على ألسِنة الناس ،على المصطلح العراقي المعروف ” شكو ماكو ” .

 الأمر الأخطر في الفساد ليست المليارات المسروقة فقط ، سواء في سرقات القرن في العراق او سرقات الودائع في لبنان ، وانما استقراره  في المجتمع ،حيث أصبحَ ظاهرة :

” ظاهرة مستقّرة ” قادرة على انتاج ” مواطن مُستقرْ ” ، تعايشَ و أدمنَ على الفساد ، وهمّه لقمة العيش ومواجهة الأزمات ،واهمها ازمة الكهرباء .

كتبَ المفكر الفرنسي اتيان دو لا بوسي ( كاتب و قاضي 1530 -1563)  ،في كتابه العبودية المختارة او الاختيارية (ترجمة صالح الأشقر ،دار الساقي ،طبعة 2016 ) ، عن ظاهرة “المواطن المستقر ” ، في ظّل نظام مُستبد وفاسد ،حيث تنحصر اهتمامات هذا المواطن المستقر في ثلاثة أشياء : لقمة العيش ،كرة القدم ،والدين السطحي .

والدين السطحي ، لا علاقة له بالحق والعدالة ،و انما هو أداء للطقوس التي نشأ واعتاد عليها المواطن .

الفساد ،والذي ساد في كلا البلدين ، سياسي بامتياز ، و يمارس بغطاء سياسي و بآليات سياسية وادارية تسمح بسرقة مليارات الدولارات ،وبشكل منتظم و مستمر .

لماذا يستفحل الفساد ،وبهذه الصورة في العراق ولبنان ؟

ماهي الاسباب ؟

هل النظام السياسي المبني على المشاركة او المحاصصة لكل مكونات المجتمع هو السبب ؟

هل الاحزاب السياسية تنظر إلى تداول السلطة فرصة مواتية للإثراء والاستحواذ ؟

هل التدخلات الخارجية الصلبة و الناعمة والتي يعاني منها العراق ولبنان لها مصلحة في انتشار الفساد و اضعاف البلديّن ؟

هل نعاني من داء انعدام الولاء للدولة ؟

فسّرتُ ظاهرة الحواسم التي عاشها العراق بعيد سقوط النظام عام 2003 ، حين ساد النهب والسلب لقصور الرئاسة ودوائر الدولة وبيوت المسؤولين ، بمؤشر انعدام الولاء للدولة ،لأنَّ المواطن يشعر بأنَّ الدولة وممتلكاتها وخيراتها مُصادرة من قبل السلطان او الحاكم  الجائر ، وهذا شعور متراكم منذ تأسيس الدولة في العراق .

هل يا ترى ترسّخ هذا الشعور لدى بعض السياسيين وتطبعوا على سلوك ” الحوسمة “،ولكن بأسلوب يتناسب مع الديمقراطية وتعدد الاحزاب والحاجة إلى الدولارات من اجل تداول السلطة ،ألا وهو ( و اقصد الأسلوب ) سرقات القرن ؟

مَنْ لهم المصلحة في ان يكون لبنان ويكون العراق دولتين فاشلتين ، لا بسبب الحصار والعقوبات والإرهاب ، و لكن بسبب الفساد وآثاره الكبيره على الدولة والمواطن و المجتمع ؟

 مَنْ منّا لا يعرف الجهات التي حمت ورعت لعقود من السنيين مهندس سرقة الودائع وانهيار البنوك في لبنان ، والذي سُمِحَ بحبسه الآن ،وتحت حماية، خوفاً من تصفيته وضياع الأدلة والاعترافات والوثائق ؟

تعدّدت السرقات في العراق ،ولضخامة مبالغها ، حصلت على لقب ” سرقات القرن ” . مليارات الدولارات من الموازنة ،مليارات الدولارات من  الودائع الضريبية ،مليارات  من الموانئ ، اراضي بمئات الدونمات و تقدر قيمتها بمليارات الدولارات ، والمعلومات على ذمة ما ينشر على مواقع التواصل الاجتماعي وما يدلي به بعض السياسين من تصريحات ،ووفقاً لآخر مؤتمر صحفي للقاضي حيدر حنون  ،رئيس هيئة النزاهة في العراق ،بتاريخ 2024/9/4 .

بعض القادة السياسيين في العراق يطالبون بمحاكمة علنية للمتهم . و المتهم ، وفي مقابلة له على قناة الشرقية ( فضائية عراقية) بتاريخ 2024/8/17 ، يطالب هو الآخر بمحاكمة علنية ،على غرار محاكمة صدام حسين .

هل ستأتي مروحية لإغاثة وانتشال  من هو خلف القضبان في بيروت ،والمتهم بسرقة الودائع وغيرها من التهم ؟

وهل سيُسدل الستار على ذكر المتهم بسرقات القرن في العراق وتصبح القضية طي النسيان،وتمّرُ على ” المواطن المُستقر ” ، بفعل تأثير ما يُولد من احداث ومفاجآت كل يوم في العراق ، وكل حدث ومفاجأة ينسخان ما قبلهما ؟

 

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى