مشروع الانتظام المالي وردم الفجوة بغاز الهيليوم ( عماد عكوش)

بقلم د. عماد عكوش -الحوارنيوز
لبنان أمام معضلة بالغة التعقيد يتمثل بقطاع عام فشل في منع انهيار النظام المالي ، وهو مدعو الآن لتنفيذ واحدة من أكثر مهام التعافي حساسية ، وهي استرداد ودائع ملايين المواطنين . مشروع قانون “الانتظام المالي واسترداد الودائع” الجديد يضع نواة هذا الجهد في كيان جديد هو “صندوق استرداد الودائع” ، ما يطرح سؤالاً محورياً وهو كيف يمكن لهذا الصندوق أن ينجح حيث فشلت المؤسسات القائمة؟
ان فشل القطاع العام هو امر تقليدي حيث ان إرثا من الممارسات الخاطئة لن يتم تصحيحها بكبسة زر، بل يحتاج الامر الى سنوات من الجهد المتواصل والعمل الدؤوب ، ان فهم سبب فشل المؤسسات التقليدية هو المفتاح لتصور إمكانية نجاح الصندوق الجديد . وفقًا للتحليلات تكمن جذور الأزمة في دائرة مغلقة من السياسات الخاطئة بدأت منذ التسعينيات ومن اهم هذه السياسات :
– ان الدولة أنفقت بلا إنتاج ، حيث راكمت عجزًا هائلاً ، وتخلَّفت عن سداد سندات اليوروبوندز ، وهو ما يُحمِّلها القانون الجديد المسؤولية الأساسية عن الانهيار.
– ان مصرف لبنان حوَّل السياسة النقدية إلى “هندسات مالية” معقدة و”مخطط بونزي”، قدم فوائد خيالية لجذب الودائع ، ثم استخدمها لتمويل عجز الدولة من دون إنتاج أو نمو حقيقي .
– ان المصارف التجارية اكتفت بدور الوسيط ، حيث جنت أرباحًا هائلة من هذه الفوائد المرتفعة دون إدارة المخاطر أو تمويل الاقتصاد الحقيقي .
لقد نتج عن هذا المثلث الفاشل فجوة مالية هائلة تقدر بـ73 إلى 82 مليار دولار ، أي ما يعادل نحو 330% من الناتج المحلي الإجمالي . أمام هذا الإرث ، يبدو أي حل تقليدي بقيادة المؤسسات نفسها محكوماً عليه بالفشل ، ان صندوق استرداد الودائع هو نموذج جديد في التصميم والإدارة ومشروع القانون يحاول كسر هذه الحلقة عبر تصميم الصندوق بطريقة مختلفة جوهرياً عن مؤسسات القطاع العام التقليدية ، مع التركيز على الشفافية والمحاسبة ، لا يكفيان فلقد تعودنا في لبنان على اصدار القوانين وعدم الالتزام بها ، او عدم المحاسبة على المخالفات التي تحصل نتيجة تطبيق هذا القانون لان المشكلة لن تكون في الشفافية ولا في القانون كما اورد صندوق النقد الدولي في ملاحظاته بل ستكون المشكلة في قصور القضاء عن المحاكمة ، وقصوره عن اصدار الاحكام ، وقصور الاجهزة الامنية عن تنفيذ هذه الاحكام بسبب التدخلات الطائفية والتي يسمح بها الدستور اللبناني وبشكل كبير تحت مسميات ضرورات العيش المشترك .
من هذا المنطلق نقول انه إذا نُفذ القانون بصرامة ، وتم الالتزام بالشروط الاساسية للنجاج والتي تتضمن :
– الاستقلالية المالية والإدارية حيث ان الصندوق هو “ذمة مالية مستقلة”، وليس جزءًا من بيروقراطية الدولة وبالتالي فصله عن التأثيرات السياسية المباشرة والروتين المعطل الذي شهدناه.
– تركيز المهمة على أصول محددة لصالح سداد الودائع مما يقلل من تضارب المصالح ويزيد من المساءلة.
– اعتماد مصادر تمويل واضحة منها أصول قائمة ومملوكة لمصرف لبنان ، وليس على الميزانية العامة المتعثرة .
– ربط النجاح بالشفافية والمحاسبة حيث يفترض أن يصاحب عمل الصندوق مراجعة مستقلة لجودة أصول المصارف (AQR) وملاحقة “العمليات غير النظامية”، مثل التحويلات المشبوهة والفوائد المفرطة التي حصل عليها كبار المودعين بعد تاريخ محدد وان هناك بالفعل تحقيقات جارية لحركة حسابات مدراء المصارف ، هذا الامر يخلق بيئة محاسبة قد تمنع استمرار الممارسات القديمة.
يبقى القول ان هناك تحديات كبيرة بالتأكيد ستواجه وضع هذا القانون موضع التنفيذ الفعلي منها :
– خطر الاستنسابية وتمديد عمله فبعض التحليلات تحذر من أن غياب سقف زمني محدد لعمل الصندوق ومعايير غامضة لتحويل عائدات أصول الدولة إليه (بعد تحقيق نمو معين) قد يفتح الباب لاستخدامه كأداة سياسية أو لتمديد عمله إلى ما لا نهاية على حساب المصلحة العامة.
– نجاح الصندوق يعتمد على بيع الأصول بشكل عادل وشفاف ، واسترداد الأموال المهربة ، وهما مهمتان فشلت فيهما الدولة سابقاً. غياب قضاء مستقل وقوي للمحاسبة يظل العائق الأكبر.
– ان القانون ما زال مشروعاً وسيواجه رحلة تشريعية شائكة في البرلمان، حيث تتصارع رغبات المودعين ومقاومة المصارف ومواقف القوى السياسية . جمعية المصارف ترفض بالفعل تحميل القطاع المسؤولية الكاملة عن الانهيار.
– بعد أكثر من خمس سنوات على تجميد الودائع ، فقدان الثقة بين الجمهور والدولة هو التحدي الأصعب . أي تأخير أو عدم وضوح في الخطوات الأولى لتنفيذ القانون سيقوض مصداقية الصندوق منذ البداية. لذلك سنرى ان الحكومة اللبنانية وبموجب هذا القانون وهذا لن يكون مقتصر على هذه الحكومة بل على كل الحكومات القادمة ، سيكون دورها محصور بمحاولة ردم الفجوة بغاز الهيليوم وبالتالي لن تصل اي حكومة الى تحقيق الهدف من هذا القانون وهو رد الودائع لاصحاب الحقوق .



