مسؤوليات الدولة.. ورهانات المقاومة(فرح موسى)

أ.د.فرح موسى – الحوارنيوز
إن أي دولة في العالم لا يمكنها إلا أن تمارس سيادتها،وتحقق أمنها،وتتحمل مسؤولياتها اتجاه شعبها،لأن ذلك يعتبر من مقوّمات وجودها.إذ هي معرّفة وفقًا لوجودها ونشأتها العلمية والقانونية، الدستورية،أنها مكونة من أرض وشعب وسلطة.
وإذا كانت قد سميت بالسلطة وعرّفت بها،فذلك إنما كان لها تعبيرا عن أهم ركن من أركانها،بما هي سلطة أمر ونهي وحماية للشعب والأرض والمؤسسات،وقد جاء تعريفها في رؤيتنا الدينية والقرآنية، أنها تعبير عن الأمة من حيث كونها تشكّل مؤسسة من مؤسساتها، ولهذا نجد الإسلام يقدّس الأمة ولا يقدّس الدولة،بخلاف ما اعتاد عليه أباطرة العصور،ونهجته الأمبراطوريات في تاريخها الديني والسياسي.؟
وانطلاقًا من ذلك،نرى أن الدولة اللبنانية ليست بدعا من الدول،فهي دولة عضو في الأمم المتحدة،وعضو مؤسس في الجامعة العربية،وتعبّر عن نفسها بكل ما تعنيه الدولة من سلطة وقوانين ومؤسسات،وتتميز بدستورها ورعايتها لفروض الإجلال لله تعالى. فهي دولة ذات سيادة،وقد جاءت الحرب الأخيرة لتفرض امتحانًا جديدًا على الدولة التي تكرّرت الحروب على حدودها الجنوبية،حتى أن بيروت العاصمة لم تنجُ من العدوان والاحتلال. فالحروب استمرت ضد لبنان دولةً وشعبًا في خرق واضح للسيادة اللبنانية على مرأى ومسمع كل الدول والمنظمات الدولية،ما يؤكد لنا نزعة الاستعمار لتفسير نشأة الدول بين أن تكون مستقلة أو تابعة وملحقة. لقد اعتُدي على الدولة اللبنانية منذ عقود من الزمن،وقُتل اللبنانيون ظلما وعدوانا،سواء كان العدوان ناشئا عن مقاومة للاحتلال،أم لم يكن العدو يعتدي على لبنان برًا وبحرًا وجوًا،ولم يكن هذا العدو في يوم من الأيام مستعدًا لتطبيق،أو التزام قرارات الأمم المتحدة لما وفرّه له الاستعمار من مظلات دولية لتسويغ عدوانه وكل اللبنانيين يعلمون حقيقة.
الموقف العدواني من الكيان الصهيوني لجهة وجود نوايا توسعية واستعمارية تقود هذا العدوان.وإذا كان هناك من اللبنانيين،أو العرب، من يرى أن العدوان على لبنان سببه المقاومة،فهؤلاء لا يرون في هذا الكيان جرثومة فساد،أو تحركه سياسات توسعية،أو أن وظيفته استعمارية،لكونهم يتماهون معه في المبدأ والمنهج والرؤية والهدف،فهم أثناء الحرب الأهلية وبعدها كانوا يعبرون عن هذا الموقف طمعًا بالسلطة والمال على حساب وجودهم التاريخي وخلافًا لقناعتهم الدينية والسياسية،وغالبًا ما كان يدفع بهم هذا الطمع إلى المناداة بالتقسيم والفدرلة،ليكونوا امتدادًا للعدوان وتعبيرًا عنه وكم عهدنا من هؤلاء في معزوفتهم القديمة الجديدة عن السلاح والمقاومة، متهمين إخوانهم في الوطن بالعمل للخارج،رغم أن الوجود التاريخي والسياسي لهؤلاء لم يخلُ يومًا من تطبيق أجندات خارجية ضد مشروع الدولة الواحدة ،وأحداث لبنان تشهد عليهم أنهم لم يعملوا يومًا بوحي من السيادة،أو لتقوية وجود الدولة،وهذا ما كان يؤدي إلى إضعاف الدولة داخليًا وخارجيًا،ويجعلها عاجزة عن مواجهة المحتل . ويكفي أن يعلم هؤلاء أنهم لو كانوا مجاورين جغرافيًا للعدو،لكانوا تماهوا معه لدرجة القبول به والعمل في خدمته، وهذا ما تقدّمه لنا تجارب الأحزمة العازلة على الحدود الجنوبية لحماية المحتل.فالمقاومة لم تكن يومًا بديلًا للدولة،ولو أن الدولة كانت موجودة لما كان المواطن الجنوبي اضطر إلى المقاومة،أو لتحمل أعباء الحروب التي تعرّض لها في مواجهة العدو،وكما نرى من حالة المقاومة اليوم أنها تدعو الدولة إلى تحمّل مسؤولياتها،وهذا ما عهدناها تدعو إليه منذ الستينات من القرن الماضي،وخطابات الإمام الصدر وعلماء جبل عامل خير شاهد عل ذلك.فالمقاومة تراهن على الدولة،وجودًا،وتحريرًا،والتزامًا بالإعمار،وتحقيقًا للسيادة،وإعمالًا للقوانين،وهذا ما يجعل الدولة أمام امتحان جديد في الوجود والسياسة والحضور الدولي بعد كل ما تعرّضت له من تهشيم اقتصادي وسياسي. فإذا لم تتمكن الدولة في ظل ظروفها الطائفية والمذهبية والحزبية،ومزاجات التقلّب الداخلي في فهم طبيعة العدو الصهيوني،فقد يؤدي ذلك بالدولة إلى مزيد من التأزم الداخلي،فضلًا عما يفرضه ذلك من تعزيز لوجود المقاومة، حمايةً لمشروع الدولة،وهذا ما كانت دائمًا المقاومة تراهن عليه في مقابل مشاريع التجزئة والتطرف،أن تكون الدولة قويةً وذات سيادة،وقد قال لهم الإمام الصدر في أطروحته لبناء الوطن القوي:”لن نرضى أن يبتسم لبنان وجنوبه متألم…”. فهذا الخطاب يلازم حياتنا،وهو مبعث أمل لكل مقاومة في مواجهة الاحتلال ودعاة التقسيم.فرهان المقاومة كان وسيبقى على نجاح مشروع الدولة بما هو مشروع سيادة وحماية وتحرير وعدالة،وهذا ما كان يعمل من أجله وفي سبيله كل علماء جبل عامل،أن تتحوّل الدولة من كونها تمثّل نظامًا لحفر القبور،كما قال الإمام شمس الدين (قد)،لتكون أملًا في بعث المواطنة والوطن الحر والمستقل،وعلى كل مواطن لبناني تعقّل معنى أن تكون المقاومة عضدًا وسندًا للدولة في بناء مشروعها العادل،لا أن يُطلب إضعاف المقاومة في لحظة ضعف الدولة،فهذا من شأنه إطالة أمد الاحتلال وفرض الشروط على الدولة والمقاومة معًا، ما يعرّض الوجود اللبناني لكل خطر، فيما لو تجرّد لبنان من عوامل قوته في خضم ما يشهده الشرق الأوسط من تحولات كنا ولا نزال نرى أنها تشكّل بداية منعطفات جوهرية، طالما أن مضيقي هرمز وباب المندب لا يزالان يفرضان وقع كل تحوّل استراتيجي في المنطقة والعالم،وليس على أهل العجلة في اتخاذ مواقف الهزيمة سوى التدّبر قليلًا في معطيات وأحداث العالم،لعلهم في نظرتهم الشاملة والكلية يهتدون إلى ما يكون لهم فيه السداد والصلاح في الموقف والرؤية والهدف.والسلام
* رئيس المركز الإسلامي للبحوث والدراسات القرآنية.