مدنية الدولة تمر بإقرار حق اللبنانيين في اختيار قانون أحوالهم الشخصية
حدثٌ فائق الأهمية شهده لبنان في ٢٥ نيسان من سنة ٢٠١٣ كان من شأنه حتماً ان يهدد صيغة الحكم الطائفية التي ما زالت تعرقل اليوم قيام الدولة، ويفرض نفسه مدخلاً أساسياً الى الدولة المدنية.
في تلك السنة، قام شخصان هما نضال درويش وخلود سكّرية، وبشجاعة قلّ نظيرها، بمواجهة النظام الطائفي اللبناني وتحدّيا أفظع أوجه الترهيب الديني واستطاعا بقوة الدستور والقانون فرض إعلان زواجهما المدني المعقود على الأراضي اللبنانية، اضطرت دوائر الأحوال الشخصية على إثره، الى قيده في سجلات النفوس وتلاها بعد ذلك تسجيل وثيقة ولادة ابنهما، باكورة هذا الزواج، كأول طفل لبناني مدني.
اقتضت العملية على ان يقوم الإثنان بشطب الإشارة الى طائفتهما في سجلات النفوس، فأصبحا تلقائياً منتميين الى فئة الأفراد الذين لا ينتمون الى طائفة. وحيث أن اللاطائفيين يخضعون في لبنان الى القانون المدني وفق قرار المفوض السامي رقم ٦٠ل.ر. الصادر سنة ١٩٣٦ والمعمول به حتى يومنا هذا، فقد طُبّق هذا القرار على زواجهما المدني ليكونا اول برهان وتأكيد على قانونية عقود الزواج المدنية وصحتها وعلى مدنية الدولة اللبنانية.
حذا الكثيرون حذو نضال وخلود، وفرضوا على دوائر سجلات النفوس شطب الإشارة الى طائفتهم. فذِكرُ الطائفة هو في الأساس امر مناف للقانون لأن سجل النفوس هو في المبدأ تجسيد لسيادة الدولة وقوانينها على الناس وليس سيادة الطائفة عليهم. والأمر سيّان بالنسبة لسجل العقارات الذي يرمز الى سيادة الدولة على أراضيها.
تزوج هؤلاء مدنياً في لبنان على غرار زواج نضال وخلود وانتظروا ان تسلّمهم وزارة الداخلية وثائق زيجاتهم لتسجيلها، الاّ أن وزير الداخلية حينها، نهاد المشنوق، امتنع عن ذلك في الوقت الذي لا يملك هذا الحق لسببين:
-لأن مهمة وزارة الداخلية في ما خصّ الأحوال الشخصية هي فقط تسليم الوثائق الى الأزواج.
-لأن وزارة الداخلية ليست جهة قضائية مخوّلة النظر في أساس الزيجات وصحتها.
وبالتالي يكون وزير الداخلية قد خالف القانون وحرم هؤلاء الأزواج حقهم المكرس في الدستور وقمع حق تجلي مدنية النظام اللبناني في مهده!
نعم، إن فرض مدنية الدولة يمر أولاً بإقرار حق اللبنانيين في اختيار القانون الذي يرونه مناسباً لهم في أحوالهم الشخصية والإعتراف لهم بهذا الحق من دون التهويل عليهم بتكفيرهم أو حرمانهم من حقوقهم خصوصاً أنه لم يستشرهم احد في مسألة قبولهم أو رفضهم الإنتساب الى هذه الطائفة او تلك عند ولادتهم.
ما من دولة متحضرة تتجرأ على تعليب مواطنيها في قوالب طائفية على هذا الشكل. في سويسرا، على سبيل المثال، تسأل الدولة رعاياها إذا كانوا يرغبون في تسجيل أبنائهم تحت دين معيّن وليس ذلك الا من باب فرض ضريبة عليهم يتم تخصيصها لرعاية دور العبادة التي يؤمونها ويمارسون شعائرها.
الواضح اليوم أن الحكومة لن تتشكل بالسرعة التي تقتضيها الأزمة الإقتصادية والمالية الحالية. فالمعطلون كثر ولحجج يفسّرها كل منا وفق أهوائه السياسية. والأمر الأخطر هو ان ما نشاهده على الإعلام من تصريحات سلبية ومضرّة بمصلحة لبنان يبدو وكأنها مفتعلة للسير وبسرعة باتجاه إقامة مؤتمرٍ تأسيسيٍّ، بحجة أن النظام كما هو الآن لم يعد قابلاً للعيش وهذا حتماً هو أسوأ ما يمكن ان يحصل للبنان في هذه المرحلة.
لعلّ طرْح الرئيس بري الدولة المدنية كحل لأزمة تشكيل الحكومة هو الأنسب للخروج من هذا الوضع. لكن الامر يتطلب مجهوداً ووقتاً كبيرين مع إمكانية عرقلة هذه العملية بمماطلات طويلة الأمد شبيهة بمماطلات تشكيل الحكومة.
وبما ان الخطر المحدق بلبنان أصبح خطراً وجودياً يهدد الكيان اللبناني برمته، وبما ان انهيار الكيان هو اضمحلال للبنان في الشكل الذي نعرفه اليوم ويشكل موتاً حتمياً له، فهل تنفع الميت مظاهرات المطالبة بالحق في الصحة والحق في العمل؟ ألا يفرض المنطق التظاهر من أجل حماية الكيان ومؤسساته؟
وبناءً عليه،
بما ان حماية الكيان تفترض إقامة الدولة المدنية،
وبما أن تطبيق المادة ٩٥ من الدستور هو طريق صعب وطويل ومكبّل بمطبات كثيرة وعرقلات سيفرضها تشكيل هيئة وطنية يوافق عليها جميع الأفرقاء،
وبما أن مدنية الدولة قابلة للتحقق بظهور مدنيين متحررين من سطوة الزعامات الطائفية على أحوالهم الشخصية،
وبما أن هذا الأمر يفرض تلقائيا إعادة الانتخابات النيابية لفرض تمثيلهم،
فإني أدعو اللبنانيين الصادقين برغبتهم الحقّة بدولة مدنية وبحلٍّ جذريٍّ وحقيقيٍّ لأزمة لبنان المستفحلة والمزمنة أن يفرضوا في تجمّع حاشدٍ شطب الإشارة الى طوائفهم من سجلات النفوس لكي نفرض اعادة الانتخابات من اجل تمثيلنا وفق قانون نسبي صحيح يؤمن المساواة والعدالة بين اللبنانيين.
فالمدنية ليست بالقول بل بالفعل وانطلاقاً مما جاء أعلن الآتي:
“أَفرض، أنا كارول شبلي تويني، على دوائر الأحوال الشخصية شطب الإشارة الى طائفتي من سجل النفوس لأني مواطنة لبنانية قبل أن أكون مسيحية، وأحتكم الى قوانينها المدنية”.