ما بين بوتين والأسد اقوى من بازارات السياسة…!
محمد صادق الحسيني
كثر الكلام أخيرا من الغث والسمين عن خلافات في الرؤى بين روسيا بوتين وسورية الاسد ، وذهب كثيرون من دون علم ولا مسؤولية الى الحديث عن نية مزعومة لدى القيادة الروسية للضغط باتجاه تغيير القيادة في سورية، او ما سموه تغيير الرئيس بشار الاسد ، وهو ادعاء لا يصح الا مع مرضى النفوس ممن ينطبق عليهم المثل الايراني الشهير:"الكافر يقيس الناس على معتقده…"ظناً منهم ان كل عالم السياسة هو كعلاقتهم الذنبية مع سيدهم الامريكي …!
صحيح ان التاريخ ليس وحده من يعطي العلاقات السوريه الروسيه الحاليّه ذات الطبيعة الاستراتيجية المتينه طبيعتها، وانما الاقتصاد والسياسة والامن والضرورات العسكريه للطرفين . وهذا يعني ان العلاقات الحاليّه مبنية على اسس القانون الدولي الشديدة الوضوح ، في تنظيم العلاقات بين الدول ، وكذلك الامر فهي مبنية على المصالح المتبادله للطرفين .
ومن نافل القول ايضاً ان هذه العلاقات ، التي تزداد ترسخاً في الوقت الحاضر ، ليست علاقات جديدة ، بل هي موجودة منذ استقلال سورية عن الاستعمار الفرنسي ، منتصف اربعينيات القرن العشرين . وتعمقت هذه العلاقات بعد توقيع اتفاقية التعاون المشترك بين البلدين ، سنة ١٩٥٥ ، والتي اثارت حفيظة القوى الاستعمارية الدولية يومها وعلى رأسها الولايات المتحده ، التي اتهمت سورية بانها تجنح لان تصبح دولة شيوعية مرتبطة بالاتحاد السوفييتي وقاعدة لتوسيع نفوذه في المنطقه …!
وقد قامت تلك القوى الاستعماريه بمحاولة فاشلة لتطويق سورية ووقف تعاونها مع الاتحاد السوفييتي ، وذلك من خلال العمل على انشاء حلف عسكري معادٍ للاتحاد السوفييتي ، اطلق عليه اسم حلف بغداد ، بحيث يضم العراق الملكي والاردن وتركيا وبريطانيا والولايات المتحدة . وقد رفضت سورية ومصر عبد الناصر هذا الملف العدواني العسكري وقاومته بكل الوسائل حتى اسقطته، وتم دفنه بعد عدوان ١٩٥٦ على مصر وتكريس الدور السوفييتي في "الشرق الاوسط" ، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً .
ولكن المحاولات الاستعماريه الاوروبيه ، بقيادة الولايات المتحدة الاميركيه بعد العدوان الثلاثي ، لاسقاط سورية ومنعها من تمتين علاقاتها مع الاتحاد السوفييتي ، قد استمرت وتم تصعيدها عبر ما اطلق عليه : "مبدأ آيزنهاور "، الذي اعلن عنه الرئيس الاميركي آنذاك دوايت آيزنهاور ، في رسالة ارسلها الى الكونغرس الاميركي ، وجاء فيها ان الولايات المتحده مستعدة لتقديم المساعدة ، الاقتصادية والسياسية والعسكرية ، لأي دولة في "الشرق الاوسط" تطلب ذلك .
ولم يمضِ وقت طويل حتى طلبت الادارة الاميركيه ، من عضو الناتو تركيا ، البدء بالتحرش بسورية عسكرياً . وبالفعل بدأت تركيا بحشد الآلاف من جنودها على الحدود السورية …وقد بلغ التوتر ذروته في ١٨/٨/١٩٥٧ اثر تعيينات وتغييرات اجراها الرئيس السوري شكري القوتلي على قيادات الجيش السوري ، اعتبرتها الولايات المتحده انقلاباً شيوعياً نقل سورية الى المعسكر السوفييتي . وهو ما دفع تركيا ( الناتو ) الى دق طبول الحرب ضد سورية . الا ان تهديد الزعيم السوفييتي نيكيتا خروتشوف ، بقصف تركيا بالصواريخ ان هي اعتدت على سورية ، الامر الذي دفع المعسكر الغربي بالتراجع عن نوايا العدوان وسحب تركيا حشودها عن الحدود السوريه وانهاء الازمة في شهر ١٠/١٩٥٧ . وبهذا يكون مبدأ آيزنهاور هو الاخر قد سقط تماماً وانتهت احلام الولايات المتحده بالسيطرة على سورية ، بحجة التصدي لتمدد النفوذ السوفييتي في "الشرق الاوسط" .
وكما كانت خطط العدوان الاستعماري الأورو- اميركي ضد سورية ، في خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن الماضي ، متواصلة ضد سورية والدول العربيه الاخرى المعاديه للاستعمار ، الا انها وفِي جزء كبير منها كانت تستهدف المصالح السوفييتيه ، ومن ثم الروسيه بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ، في المنطقة والعالم ، وذلك عبر تكريس سيطرة الولايات المتحده على بحار واسواق العالم . وكانت للسيطرة على البحر المتوسط ، من قبل الاساطيل الاميركيه ، اهمية مزدوجة خدمة للمصالح الامنيه العسكريه والاقتصاديه لكل من الولايات المتحده والكيان الصهيوني .
ولا بد هنا من العودة بالذاكرة الى السياسات الاميركيه ، المعاديه لسورية ، منذ بداية القرن الحالي ، وصولاً الى اغتيال الرئيس رفيق الحريري في لبنان واستصدار القرار ١٥٥٩ من مجلس الامن وارغام الجيش السوري على الانسحاب من لبنان وافتعال ازمة دولية لحصار وتدمير سورية ، بعد اتهامها زوراً باغتيال الحريري . ولكن فشل هذه الحمله وصمود سورية قد دفع قوى العدوان الاستعماري الى اشعال حرب ٢٠٠٦ ضد لبنان ، أملاً من واشنطن في تحقيق الهدف باخضاع سورية وانهاء دورها ، المتمثل في كونها خط الدفاع الاول عن القضايا العربيه ، وفي مقدمتها قضية فلسطين ، وكذلك كونها قلعة امام السيطرة الاميركيه على المنطقه .
اما عن علاقة كل هذا مع طبيعة العلاقات السوريه الروسيه واكتسابها صفة العلاقات الاستراتيجيه ، فلا بد من توضيح بعض النقاط ، لاظهار حقيقة العلاقه الجدليه ، بين المصلحة الروسيه وتلك السوريه في التعاون العسكري والسياسي والاقتصادي ، والتطور والنمو الذي شهدته هذه العلاقات ، منذ بدء الحرب الكونيه العدوانيه على سورية ، سنة ٢٠١١. واهم هذه النقاط هي التاليه :
١)اتفاقية التعاون المشترك ، بين سورية والاتحاد السوفييتي ، الموقعه سنة ١٩٧١ ، والتي شكلت قاعدة تعاون صلبة ، على مختلف الصعد وبينها الصعيد العسكري ، حيث حصل الاتحاد السوفييتي آنذاك على نقطة ارتكاز بحرية لاسطوله، الذي يقوم بمهمات الدوام القتالي في البحر الابيض المتوسط .
ورغم تعثر عمليات الاسطول الروسي لبضع سنوات ، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي سنة ١٩٩١ ، الا ان بداية الالفية الحاليّه قد اعادت الحياة الى هذا الوجود البحري الروسي في المتوسط . وهو الوجود الذي يعتبر ، من وجة نظرنا ، القوة الروسية التي تتواجد على خط الدفاع الاول عن اسوار موسكو ، حتى قبل بدء العدوان على سورية . وليس علينا الا ان نتذكر ، بان الاساطيل الاميركيه والبريطانيه والفرنسيه والايطاليه ، التي شاركت في حروب التدخل ، التي بدأتها البحريه البريطانيه ، في شهر حزيران سنة ١٩١٨ ، عندما نفذت عملية انزال بحري على ميناء مورمانسك Murmansk في المحيط المتجمد الشمالي ، وسيطرت عليه ، نقول ان هذه الاساطيل قد تحركت للهجوم على روسيا من البحر المتوسط الى مضائق البوسفور والدردنيل وصولاً الى البحر الاسود ، جنوب روسيا ، حيث وصلت الاساطيل الفرنسيه والبريطانيه واليونانية والايطاليه الى ميناء اوديسا ( حالياً في اوكرانيا ) ، بالاضافة الى قوة بحرية اميركية ، قوامها ٨٠٠٠ من عناصر المارينز ، قد تم انزالها على سواحل ڤلاديڤوستوم ، في اقصى الجنوب الشرق الروسي ، وبدأت جميع هذه القوات ، ومن خلال عمليات منسقة ، بمهاجمة الاراضي الروسيه ….ولكنهم فشلوا في اختراق الاراضي الروسيه واحتلال اجزاء منها .
٢)كما ان اتفاقية التعاون السوريه الروسيه ، المذكوره اعلاه ، قد شكلت ارضية لقيام وزارة الدفاع السوفييتيه بتعزيز الوجود العسكري السوفييتي في طرطوس ، بعد ان قرر السادات يوم ٨/ ٧/١٩٧٢ الاستغناء عن خدمات المستشارين العسكريين السوفييت في مصر ، وهو الامر الذي وصفه الزعيم السوفييتي ليونيد بريجنيف بانه اكبر هدية للولايات المتحده دون ثمن .
الى جانب ذلك فقد شكلت هذه الاتفاقيه القاعدة التي قام بموجبها الاتحاد السوفييتي بتسيير ٩٠٠ رحلة جويه ، لطيران النقل العسكري ، لنقل ١٥٠٠٠ طن من المعدات العسكريه للجيش السوري ، بعد حرب تشرين ١٩٧٣ ، وذلك لتعويض الخسائر التي لحقت بقوات الجيش . كما تم اقامة جسر بحري بين روسيا واللاذقية لنفس الغرض .
ولا بد ، في هذا الصدد ، من التأكيد على ان الاتحاد السوفييتي لم يكن ليقم بكل تلك العمليات ، التي اعتبرها استثماراً استراتيجياً في علاقاته مع سورية ، لم يكن ليقم بذلك لو لم يكن على قناعة بان الدور السوري في التصدي لمحاولات الهيمنة الاميركية في العالم هو دور اساسي.
٣)وقد تأكد هذا التقدير السوفييتي العميق ، للدور السوري ، سنة ٢٠١٠ ، عندما حصل الهجوم الدبلوماسي الاقتصادي الاميركي الاوروبي التركي الخليجي على روسيا الاتحاديه ، وذلك عندما قام الرئيس الفرنسي ، نيكولاي ساركوزي ، بترتيب قمة رباعية في دمشق ، ضمت الى جانبه الرئيس بشار الاسد ورئيس الوزاراء التركي ، رجب طيب اردوغان ، والذي لم يكن رئيساً لتركيا بعد ، وامير قطر ، الشيخ حمد بن خليفه آل ثاني .
وقد عقدت هذه القمه في دمشق ، بتاريخ ٢٧/٥/٢٠١٠ ، حيث عرض هؤلاء على الرئيس الاسد ما يلي :
أ)عرض الفرنسي العمل على اعادة دمج سورية في المجتمع الدولي وتقديم مساعدات اقتصادية اوروبيه لها .
ب)اما اردوغان فقد عرض الضغط على "اسرائيل" ، حيث كان يعمل وسيطاً في المحادثات غير المباشره بين سورية والكيان الصهيوني ، عرض تكثيف الضغط على "اسرائيل" للوصول الى حل لمشكلة الجولان المحتل .
ج)اما امير قطر فقد عرض على الرئيس السوري تمويلات وقروض تصل الى ١٥٠ مليار دولار ،وذلك في مقابل موافقته على :
•بناء خط انابيب لنقل الغاز من جمهوريات آسيا الوسطى ،السوفييتيه سابقاً اذربيجان وتركمانستان ، وايران بعد اسقاط الحكم فيها ، الى جانب الغاز القطري ، ومن العراق ايضاً الذي كان لا زال تحت الاحتلال الاميركي ، بحيث يمر هذا الخط من شمال شرق سورية ليصل الاراضي التركيه ويتابع مسيره من هناك عبر بلغاريا….رومانيا المجر وصولا الى النمسا ، حيث ستقام محطة توزيع لهذا الغاز لكل انحاء اوروبا . وقد سمي هذا المشروع في حينه : خط غاز نابوكو Nabucco . وهو مشروع كان يحظى بدعم امريكي اوروبي كامل وبدأ التحضير لاقامته سنة ٢٠٠٢ ، بينما تم التوقيع على الاتفاق الخاص بالتنفيذ ، من قبل كل من : تركيا / رومانيا / بلغاريا / المجر / النمسا / بتاريخ ١٣/٧/٢٠٠٩ . وذلك لمنافسة روسيا ، او بالاحرى لضرب الصادرات الروسيه من الغاز الى اوروبا ،خاصة وان روسيا كانت تخطط لاقامة خط انابيب لتصدير الغاز ، من جنوب روسيا الى اوروبا ، اسمه ساوث ستريم South Stream ، الذي استبدلته روسيا بخط آخر اطلقت عليه اسم تورك ستريم Turk Stream ،وتم افتتاحه قبل اشهر .
•تجميد علاقات سورية مع ايران .
•وقف دعم حزب الله وحركتي حماس والجهاد الاسلامي في فلسطين .
ومن المعلوم طبعاً ان الرئيس بشار الاسد قد رفض رفضاً قاطعاً تلبية اي من هذه الشروط . وربما يكون مفهوما لدى الكثيرين رفض الرئيس الاسد قطع علاقاته مع ايران وحزب الله والمقاومة الفلسطينية ، ولكن ما قد يصعب فهمه على الكثيرين هو اسباب رفض الرئيس الاسد ، وبشكل قاطع ، الموافقه على مشروع خطوط الغاز .
ولكن السياق التاريخي للعلاقات الروسيه السوريه ، الذي عرض اعلاه ، لا بد ان يساعد في فهم خلفيات وموجبات هذا الموقف السوري الصلب ، وبالتالي الموقف الروسي الداعم عسكرياً للرئيس الاسد منذ عام ٢٠١٥ . اذ ان صانع القرار السوري يعلم تماماً ان موضوع خط الغاز المذكور لم يكن مشروعاً تجارياً عادياً وانما كان مخططاً استراتيجياً امريكيا يرمي الى اخراج روسيا من اسواق الغاز الاوروبيه ، والحاق اكبر الاضرار باقتصادها بهدف شل قدرتها على مواصلة عمليات التحديث والتنمية والتطوير للدولة الروسية بشكل عام وللقوات المسلحة الروسيه بشكل خاص .
من هنا ، ومن منطلق الوفاء للصديق الصدوق ، الاتحاد السوفييتي السابق ووريثته القانونيه الحاليّه ، جمهورية روسيا الاتحاديه ، فان الرئيس الاسد ، وبالاستناد الى الاخلاق السياسيه العليا التي يتمتع بها ، فقد قرر ان يقيم خط صدٍ عن موسكو ،لعلمه المبني على تحليل دقيق للابعاد الاستراتيجيه لخطوته تلك ، وذلك لان التآمر على مصالح روسيا كان سيُمَكِّن دول الاستعمار الغربي بالحاق اضرار كبيرة بروسيا وبسورية تتابعاً ونتيجة لذلك . وهو ما جعل الولايات المتحده واذنابها ، من صهاينة واعراب وعثمانيين جدد ودول اوروبية مُستَعْمَرَةٍ من قبل الولايات المتحده يلجأون الى الخطة البديله ، الا وهي تدمير سورية وتفكيكها كدولة ، املاً منها في تدمير خط الدفاع الامامي عن موسكو . ولكن الصمود الاسطوري للشعب السوري وجيشه ورئيسه وتزايد الخطر على كيان الدولة السوريه وما بدا يلوح في الافق محدودية قدرة الدوله السوريه على مواصلة الحفاظ على حصونها على شواطئ المياه الدافئه ، ونظراً للاهميه الاستراتيجيه الفائقه لهذه المياه ، فقد قررت القيادة الروسيه التدخل مباشرة وبالقوة العسكرية اللازمة ، لدعم صمود الحصون السوريه .
وقد مثَّل هذا القرار تحركاً استراتيجياً قلب موازين القوى الدوليه ، خاصة وان سورية وروسيا قد اتفقتا ، بعد التدخل العسكري الروسي ، على تعزيز التعاون العسكري بين البلدين ، على قاعدة اتفاقيات قانونيه ورسميه طويلة المدى ، تم بموجبها، ليس اقامة قاعدة حميميم الجويه وطرطوس البحريه فحسب ،وانما ايجاد الاطار القانوني اللازم لذلك ، حسب الاصول والقوانين الدوليه ، خدمة للمصلحة الاستراتيحيه للدولتين .
من هنا فان العلاقات السوريه الروسيه ليست علاقات قائمة على الانتهازية او التسلط او الاستغلال ، وانما هي استمرار لنهج من التعاون المثمر الذي يخدم المصالح الاستراتيجية المشتركه للبلدين .وهي بالتالي ليست علاقات خاضعة لمزاج البازارات السياسيه ولا لقوانين السيطرة والهيمنة ، التي تمارسها الولايات المتحده مع اذنابها في العالم ، وانما هي علاقات متكافئة تعكس مستوى عميقاً جداً من الفهم والتحليل السياسي العلمي والموضوعي الذي هو اساس كل قرارٍ صائب .
وهذا هو السر الذي يقف وراء متانة هذه العلاقات واستحالة تعرضها للخلل بسهولة عند اول تباينات في قراءة هذا الحدث او ذاك من وقائع السياسة اليومية وتحولاتها الموسمية …!