ما أضيق العيش لولا..
لم يشهد تاريخ لبنان الحديث حالة من الإحباط والترقب معا كتلك التي يعيشها اللبنانيون والمقيمون فيه هذه الأيام. ربما لأن لبنان لم يشهد من قبل حربا كهذه الحرب التي تغتال الأمل بقيامة وطن تداعت فيه المعايير والمقاييس التي تبشر بقيامته.
لقد مرت على لبنان حروب عسكرية ضروس واجتياحات قاتلة وأزمات قاسية قل نظيرها ،ولا حاجة لتعدادها والتذكير بها ،لكن اللبنانيين لم يفقدوا الأمل كما نسمع ونقرأ كلامهم وتحليلاتهم في هذه المرحلة .فما الذي تغير في دواخلهم؟ هل تغير لبنان أم تغير اللبنانيون؟
ربما من الصعوبة بمكان إجراء قراءة دقيقة للغد اللبناني .وربما أكثر صعوبة تطمين اللبنانيين الى مستقبل آمن مستقر. وربما أصعب وأصعب إقناعهم بأن لدينا بعد وطنا، بل بقية وطن.
ولكن،
لا نريد في هذه العجالة ان ننفخ في أهلنا روحا واهمة وآمالا براقة لا تستند الى وقائع ملموسة .ولكن ماذا يفيد النفخ في رؤية سوداء مظلمة تبشر بالويل والثبور وعظائم الأمور،الا المزيد من التدهور والانهيار الذي يرى البعض للأسف انه حصل وبات مسلمة ثابتة؟
صحيح أننا في واقع فيه ما فيه من السوء والاحباط،ولكن ما يزال لدينا بلد وبقية وطن ليست مستحيلة قيامته من تحت رماد الأزمات التي أوصلتنا اليها طبقة سياسية توارثت منذ الاستقلال تراكمات قاسية ومهينة،لكنها بدل أن تعالجها ،أمعنت فيها إيغالا وتسعيرا.
نحن اليوم أمام حكومة جديدة شكلا ومضمونا ،وسبق أن دعونا الى إعطائها فرصة غير طويلة، معللين النفس على أن أمامها اليوم محفّزين على العمل: الأول معارضة سياسية واضحة لأول مرة بعد الطائف ،ومعارضة شعبية متمثلة بالحراك القائم، لعل وعسى تضعنا على درب القيامة.
صحيح أن قيامة الوطن تحتاج الى نظام سياسي سليم وعادل يحول اللبنانيين الى مواطنين حقيقيين بالدرجة الأولى ،لكن هذا النظام يحتاج أولا وآخرا الى شعب يحسن إنتاج مثل هذا النظام ،كما يحسن اختيار طبقة سياسية مؤهلة لإدارة مثل هذا النظام. ولعل أول شروط مثل هذا الشعب ،أن نبدل أولا من سلوكنا الاجتماعي والمعيشي القائم على التشاوف والإتراف والإسراف ،في بلد استنزفت وتستنزف كل طاقاته الانتاجية في مواضع يمكن على الأقل الاستغناء عنها.
قد يكون في بعض هذا الكلام نوع من القسوة على أهلنا وعلى أنفسنا ،ولكنه كلام لا بد ان نصارح أنفسنا به اذا كنا راغبين حقا في إنقاذ بلدنا وقيامة وطن. فإذا كان الشعب فعلا هو مصدر السلطات ،فهذا يعني أن الشعب مسؤول اولا وآخرا وهو نقطة البداية في بناء الاوطان .ولعل السلوك الاجتماعي والمعيشي للناس هو أول سطر في مدماك هذا البناء.
على اللبنانيين اذا كانوا راغبين فعلا في الإنقاذ أن يبدأوا من أول السطر ،وأن يبدلوا من نمط سلوكهم الاجتماعي،واتباع حالة تقشف يبدو ان بعضهم بات ملزما بها نتيجة انحسار مداخيلهم المالية لأكثر من سبب .والأمثلة هنا كثيرة لا تعد ولا تحصى،ولكن لا يجوز بعد اليوم ،على سبيل المثال،ان يكون في لبنان ما يقرب من نصف مليون عامل وعاملة منزلية ،في بلد لا يتجاوز عدد مواطنيه المقيمين أربعة ملايين. وأعرف سلفا أن هذا المثال سوف يغضب الكثير من سيدات البيوت ،ولكن الصراحة والواقعية تدعونا الى تدارك الامور قبل سقوط الهيكل على رؤوس الجميع ،وكي لا نصحو يوما على واقع نصبح فيه مجبرين على ربط الأحزمة في الأساسيات الأساسيات.
ان نمط السلوك الاجتماعي القائم لا يحررنا من الحاجة،والحاجة لا تحررنا من التبعية،والتبعية لا تحررنا من العبودية،والعبيد لا يبنون وطنا . ولا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
في الخلاصة لم ولا يجب ان نفقد الأمل .فشعبنا الذي ضحى بالروح ،وهي أعز ما يملك ،من أجل التحرير والكرامة ،قادر على التضحية بما هو أقل كلفة .فالتغيير ممكن والاصلاح ليس مستحيلا ،شرط ان نبدأ بأنفسنا بدل الاستمرار في لعن الظلام السياسي الدامس .والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. وقديما قال الشاعر:
أعلل النفس بالآمال أرقبها
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل .