ماذا في زيارة بلينكن للمنطقة؟(محمد عبد الله فضل الله)
كتب محمد عبد الله فضل الله
جاءت زيارة وزير الخارجية الاميركية أنتوني بلينكن إلى المنطقة بعد زيارة مستشار الأمن القومي جاك سوليفان، ومدير الاستخبارات المركزية ويليام بيرنز. فمرة جديدة تتوالى زيارات المسؤولين الأميركيين من أجل إطفاء نيران التوترات الأمنية المتصاعدة في فلسطين المحتلة والتي ساهمت هذه الإدارة بسياساتها الداعمة للاحتلال في زيادة منسوب إشعالها. إنها زيارات سياسة تطويق الأزمات خدمة لكيان العدو ومصالحه العسكرية والسياسية خصوصاً مع التطور النوعي لضربات المقاومين.
يبدو أن الولايات المتحدة لا تريد حرباً مفتوحة على احتمالات قد تشعل المنطقة برمتها قد لا يمكن ضبطها في خضم صراعات دولية مفتوحة ،كالتي تجري في أوكرانيا وما ينتج عنها من مضاعفات ومواقف وزيادة التنافس بين القوى العظمى.
على الضفة الإسرائيلية فإن التعامل مع ما يجري كان مشوباً بالحذر الشديد ،وهو ما كان واضحاً في اتخاذ إجراءات محددة، منها ما أعلنه الجيش الإسرائيلي بإغلاق المستوطنات المحيطة بالقدس أمام العمالة الفلسطينية ، ومعاقبة أهالي منفذِ العمليات، وطلب وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي إيتمار بن غفير من بلدية القدس قائمة بكل المنازل غير المرخصة للبدء بهدمها.
أتت زيارة بلينكن لمصر من أجل تأكيد الدور المصري الفعال في علاقاته مع حماس والسلطة معا، وقدرته على وضع حد للتصعيد في هذه الظروف المشتبكة عالمياً وإقليميا، إن كان مع إيران أو روسيا والصين وغيرها.
مع ذلك فإن الولايات المتحدة تحاول دفع مصر نحو التزام خطوات مهمة على صعيد الإصلاحات الممكنة اقتصاديا واجتماعيا والتنسيق بشكل فعال مع صندوق النقد الدولي وشروطه.
كما أن الولايات المتحدة تعلم ما لمصر من أهمية محورية على صعيد الصراع الليبي ومستقبله وعلى صعيد السودان ودعم العملية السياسية هناك واستقرارها.
كان قد قال بلينكن في تغريدة له عبر صفحته الرسمية على “تويتر” إن رحلته الرابعة للشرق الأوسط تؤكد التزام بلاده تعميق العلاقات الثنائية والعلاقات بين الشعوب وتعزيز حقوق الإنسان وتقوية الأمن الإقليمي والعالمي.
ولنا أن نتساءل عن جدوى هذا الكلام الذي لم يعد قابلاً للصرف في الواقع المتفجر اليوم، فهو كلام دبلوماسي لا واقعية له ما دامت الولايات المتحدة هي الخصم والحكم في آن.
فهل باستطاعة أميركا اليوم فرض ما كانت تبنته من التزامات سابقة بعدم المساس بالوضع القائم في الأماكن المقدسة بالقدس، وبالتوقف عن توسيع الاستيطان، وفتح قنوات الاتصال وتعزيزها مع السلطة في الضفة؟
وكيف ستكون الترجمة العملية لهذه الوعود التي إلى الآن لم تلتزم بها سلطات الاحتلال، وأهمها كرمزية سياسية التزام الإدارة الأميركية إعادة فتح قنصلية الولايات المتحدة في القدس؟
الكلام في كل هذه العناوين لم يعد مجديا للسياسة الأميركية، فليس الوقت هو فتح هذه الملفات ومناقشتها لا بل على العكس، فإن بلينكن ضغط على السلطة الفلسطينية في الضفة مطالباً إياها بتخفيف لهجتها والانصياع حاليا لأوامر هذه السياسة التي تريد حاليا امتصاص تصاعد وتيرة عمليات المقاومة ضد الاحتلال حصراً ، هذا الضغط الذي يسير نحو تفجير الأراضي المحتلة أكثر وإحداث شرخ بين أهل البيت الواحد.
وكيف ستواجه الولايات المتحدة الأصوات المتطرفة الإسرائيلية اليمينية التي يعلو صوتها في وجه حتى السياسة الأميركية نفسها اتجاه الكيان الإسرائيلي وهو ما بان في انتقاد أوريت ستروك، وزيرة المهمات الوطنية، اليمينية المتطرفة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن حيث غردت الوزيرة:”عزيزي السيد بلينكن، أفهم أنك قررت إعطاء رئيس وزرائنا درسا في الديمقراطية”.
وتابعت: ” الديمقراطية هي أولاً وقبل كل شيء أن تقرر الدولة مسارها وفقا لأصوات مواطنيها، على أن يعامل كل صوت بشكل متساوي دون تدخل أجنبي…. والمظاهرات بالرغم من شرعيتها لا تعادل الاقتراع”.
نعم كل ذلك يمثل تقطيعاً للوقت أميركياً ليس على مستوى الساحة الفلسطينية فحسب، بل على مستوى الشرق الأوسط وغيره من المناطق ريثما تتضح الصورة عالمياً أكثر، كذلك إذا ما أخذنا بالاعتبار بقاء سنتين للإدارة الحالية مع ما تعيشه من أزمات داخلية وضغوطات على أدائها ومصداقيتها على المستوى المحلي والدولي.
فليس كما يحاول تسويقه بلينكن بأن أميركا يجب أن تكون حاضرة في المسرح الدولي، أو أن يبقى موقعها فارغاً، في الوقت الذي لا يمكن للعالم تنظيم نفسه بنفسه وهو ما يستبطن شرعية ما تقوم به الولايات المتحدة من تدخلات مباشرة وغير مباشرة على المستوى العالمي، فلغة الاستعلاء ومنح الشرعية للاستعمار السياسي والاقتصادي المبطن أو المباشر للشعوب لن يسهم سوى في فقدان الدور الأميركي الإيجابي المفترض أن يكون متوازناً على صعيد العلاقات الدولية وهذا ما سيشوه صورة الإدارة أكثر فأكثر في وجدان الشعوب المستضعفة.
فهناك أزمة ثقة حقيقية كما يشير إلى ذلك الرئيس المؤسس لمعهد السياسات في جامعة “شيكاغو” ديفيد أكسلرود في معرض سؤاله وزير الخارجية الأميركي حيث يقول إن قادة الدول الأخرى تصل إليهم هذه المشاهد غير الجذابة لديمقراطيتنا، ويسألون “هل بوسعنا الاعتماد” على أميركا؟
باعتقادي إن سيناريوهات تجميل وجه الإدارة الأميركية والإيحاء بأنها لا تزال ممسكة بقوة بزمام المبادرة على مستوى تحديات العالم ،هي ما يطبع الحركة الأميركية التي تبقى تعمل وفق خطوط عريضة حمراء لا يمكن التنازل عنها، بل المراوغة من أجل الحفاظ عليها وإقناع الآخرين بأنها حارسة العالم ورجل القانون العالمي الأول !..