ماذا تريد أميركا من العراق؟
الصراحة المطلقة في العمل الدبلوماسي تُوصفْ بوقاحة، لذا، لا بُّدَ من قراءة اي تصريح دبلوماسي او سياسي مرتيّن: مرة لقراءة سطور التصريح، و مرّة أخرى لقراءة ما بين سطور التصريح. تشّذُ عن هذه القاعدة تصريحات الرئيس ترامب؛ فهي لصلافتها و وقاحتها، تُفهمْ بقراءة واحدة و سريعة.
مِما تقّدمْ، وددتُ التوطئة لتناول تصريحات السيد رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي، تجاه أميركا و إدارة الرئيس ترامب، و تأكيداته بأنَّ العراق لا يريد العداء لأميركا، ويسعى الى السلام وحسن الجوار مع الجميع .
في قول السيد رئيس الوزراء "لا نريد العداء مع أميركا "، دلالة على أنَّ إدارة الرئيس ترامب لم تُعدْ تتعامل مع العراق كصديق او كحليف ، على الأقل نظرياً او صورياً، باعتبار بين البلديّن اتفاقية تعاون استراتيجية وفي مجالات متعددة، و خاصة في المجال الأمني والعسكري.
كُنّا نتوقع بأنَّ مرور عقد من الزمن على اتفاقية تعاون استراتيجية بين العراق وأميركا سيكون العراق اكثر تقدماً وتطوراً، او، على الأقل، اكثر ترسيخاً و تعزيزاً لسيادته وحفظاً لقواته المسلحّة و معسكراته! ولكن، بعد سنوات من التعاون الاستراتيجي، أصبحت اجواء العراق عُرضة لهجمات استهدفت قواته المسلحة و منافذ الحدود ومخازن العتاد و عمليات اغتيال، تارةً اسرائيلة الهوية او مجهولة الهوية، وتارةً أخرى اميركية الهوية مع سبق الإعلان والإصرار! أصبحَ العراق ساحة اميركية اسرائيلية للعمل على تقليص او حسرْ نفوذ ايران في المنطقة، وعلى حساب مصلحة وأمن وسيادة العراق.
هدف الاتفاق الاستراتيجي بين العراق و أميركا، على ما يبدو، هو استخدام العراق لتعزيز الوجود العسكري والسياسي الاميركي والناتوي ، وتوسيع الاختراق الاسرائيلي لساحة العراق وضمان هيمنة اسرائيل على المنطقة.
أميركا، التي تذرعّت بنشر الديمقراطية وحقوق الانسان في العراق وسوريا والمنطقة (باستثناء فلسطين ) ، لم تتردد في الطعن بقرار مجلس النواب العراقي،القاضي بانسحاب القوات الأميركية وانهاء الاتفاقية الاستراتيجية، بذريعة ان التصويت لم يتم من قبل مكونات الشعب! وكأنَّ التصويت هو تصويت مكونات و ليس تصويت نواب وبالأغلبية!
سترسّخ أميركا تعاملها مع العراق باعتباره عراق مكونًات و ليس عراق شعب، بعد أنْ أفقدته سمة عراق دولة وسيادة! وفي ذلك تمهيد لأقلمة العراق او تقسيمه.
انسحاب أميركا من العراق وشعورها بفقدانه سيقودها الى سعي حثيث لتقسيمه.
مصلحة اسرائيل و مصلحة أميركا هو عراق مُجزّأ ونصفهِ تحت سيطرتهم، افضل من عراق موّحد و خارج عن هيمنتهم و توجيههم.
لا أحدَ يلوم العراقيين على مطالبتهم بسحب القوات الأميركية و غيرها. أمضينا اكثر من خمسة عشر سنة و العراق تحت رعايتهم وكفالتهم، وتمخضّ عن هذه الرعاية ارهاب وإقتتال داخلي و فساد وانتهاك لسيادة وأمن العراق، وتوظيف العراق لنصب العداء لإيران و محاربة سوريا !
ما تريده أميركا من العراق أنْ يعود لمحاربة ايران، وما تريده اسرائيل من العراق أنْ يُقسّمْ ويصبح دويلات حليفة لإسرائيل و مجرّده من سلاح يهدد اسرائيل.
سيعيش العراق داخلياً و اقليمياً و دولياً، و خاصة بعد جريمة الاغتيال، بين هدفيّن متناقضيّن : بين مسعى لإخراج القوات الأجنبية و آخر لترسيخها و بقائها، وانتصار العراق هو في بقائه موحداً و مستقلاً معززاً بأمنه وسيادته .
*سفير سابق، رئيس المركز العربي الأوروبي للسياسات وتعزيز القدرات، بروكسل