ماذا بعد الانتفاضة؟
لم يبق سوى أيام قليلة وتبلغ الانتفاضة شهراً كاملاً بأيامها وساعاتها والكثير من الأحداث التي وقعت في خضمها. ولا بد في هذه العجالة أن نخلص إلى النتائج العامة، سلبية كانت أم إيجابية، بنظرة نريدها موضوعية وإن صعب ذلك في الأعم الأغلب وخصوصاً في مثل هذه القضايا الحساسة المصيرية.
لقد انطلقت هذه الحركة الشعبية بطريقة عفوية غاضبة، بغض النظر عن من خطط قبلها وأثناءها، ليلتقي الناس وقد وحّدهم الظلم والفساد والطبقة السياسية، وهذا ما لم يحدث في تاريخ لبنان المعاصر. ولقد شكّل الشارع قوة رادعة لها ثقلها الوازن والرادع لكل ما يمكن أن يُطبخ من قرارات يُشتم من ورائها رائحة الفساد أو السرقة أو الجور.
ولقد رضخت الحكومة لقيام المواطين وقدّم رئيسها ورقة إصلاحية في الأيام الأولى، وأكّد عليها رئيس الجمهورية. هذه الورقة لم تكن لتنال رضى المتظاهرين المتسلّحين بحماسة المارد الخارج من قمقم السبات الأزلي والصبر الذي نفد بعد تحمّل لا يُقاس. بالإضافة إلى أن هذه الورقة لم تكن لتحمل الحلول للمطالب المحقة. لكن، وبما أننا نتحدث بشيء من الهدوء، وطرح يبتعد عن العاطفة والحماسة، لا بدّ أن نسأل: ماذا تحقق بعد رفض تلك الورقة والدعوة لعدم النقاش في تفاصيلها أو التعديل في بنودها أو الزيادة عليها بما يرضي من يعي حقيقة الموقف وحساسيته من النخبة من المتظاهرين؟ مع العلم أن في تلك الورقة، غير الكاملة، ما يمكن البناء عليه كخطوة أولى باتجاه خطوات لاحقة سيفرضها المتظاهرون على أولي الأمر بقوة الشارع كلما رأوا منهم تقاعساً أو تهرباً أو مراوغة. كان بالإمكان فرض شروط سياسية إصلاحية للمرحلة القادمة، سواء في استقالة الحكومة ورئيس الجمهورية والدعوة لانتخابات نيابية مبكرة أو حتى تغيير الدستور، والقضاء على النظام الطائفي والخ… لكن العقلانية تقتضي البدء بالأولويات التي تهم المواطنين في كل شؤون حياتهم، ولا يختلف اثنان أنها ترتكز على النواحي الاقتصادية والمشاكل الحياتية المتعددة الجوانب التي لم يعد بمقدور هذا الشعب تحملها أكثر.
فماذا حقق الحراك، الذي باركناه جميعاً، بعد رفضه لتلك الورقة الإصلاحية؟
كان الرفض المطلق للتواصل مع السلطة لترتفع الشعارات من دون منهجية واضحة، وتُقطع الطرقات على الناس، وهم المؤيدون لهذه الانتفاضة الذي يعانون من السلطة الجائرة نفسها، وبدأت الانقسامات في الشارع لنشهد وضعاً شبيهاً بما كنا عليه سنة 2005، وعودة المشاحنات بين 8 و 14 أذار وأياماً كنا على الرغم من كل الصعوبات قد بدأنا ننسى شرورها وهواجسها. وكانت استقالة الحكومة التي أرادها البعض مطلباً أولياً لتعزيز المطالب الأخرى، لترتفع الصيحات بعدها بعودة رئيسها من جديد وكأنه رجل الإنقاذ القادم من عالم أخرى ولا دخل له بالأوضاع البالية التي وصلنا إليها، مع أنه من حزب ساهم كغيره في كل ما كان وما سيكون.
لقد عدنا إلى المربع الأول بانتظار رئيس للحكومة، يراد أن يكون المستقيل نفسه، وبدأ التخبّط في طبيعة هذه الحكومة وأشخاصها ونظرتهم الحاسمة للأمور المختلف عليها والبيان الوزاري وما شابه…
يجب أن نعترف أن زخم هذه الانتفاضة قد خفت وتيرته، بغض النظر عن الأسباب التي يعرفها الجميع، والوضع الاقتصادي من سيئ إلى أسوأ، وقد كبرت معاناة المواطنين، ولن نغرق في التفاصيل. ونقول باطمئنان، إن الأغلبية الساحقة من اللبنانيين مع الانتفاضة ومطالبها ورفضها للسلطة وفسادها ورموزها ودعوتها للتغيير الجذري الصحيح البعيد عن الحسابات المريبة، لكن أغلبية هذه الأغلبية تعاني من تعطيل البلد وتحصيل لقمة العيش اليومية، خصوصاً وأن الكثير من المواطنين يعتاشون من رزقهم اليومي ولا يمكن لهم أن ينتظروا أكثر حتى تتحقق المكاسب السياسية المحقة التي نريدها جميعاً. والمبكي في هذا الأمر أن المسؤولين الذين سرقوا البلاد طيلة عقود لم تُقطع الطرقات أمام أرتال سياراتهم، ولم يعانوا من الزيادة في أسعار السلع الغذائية أو المحروقات أو الدواء، ولن يعانوا حتى ولو استمر الوضع شهوراً بل سنوات، لكن الفقراء في بلادنا ضاقوا ذرعاً ويضيقون، وآن الأوان للحلول الواعية أن تشق طريقها بعقلانية، فالهدف السامي لا يمكن بلوغه بالتسرع والعجالة والحماسة، لكنه يأتي وسوف يأتي على مراحل نأمل ونتوقع ألا تكون بعيدة.