ماذا بعد الإنهيار؟(د.وجيه فانوس)
د. وجيه فانوس* – الحوارنيوز خاص
غَيْرُ مَنطِقِيٍّ وَغَيْرُ واقعيٍّ، مَن يَرى أنّ الدّولة اللّبنانيّة لم تَصِلْ بعد إلى الانهيار. ما مِن أمرٍ على حاله، في هذه الدّولةِ على الإطلاق؛ فلا النّقدُ الوطنيّ بخيرٍ، وكذلك الاقتصادُ؛ ومعهما، ومِن دون ريب،ٍ شؤونٌ عديدةٌ في مجالات السّياسةِ والاجتماعِ والأمنِ والقضاءِ والعلاقاتِ الخارجيّةِ، ناهيك بالصّحّة والتّربية وسائر الخدماتِ العامّةِ.
اعترفت رئاسةُ الجمهوريّةُ أنّ دعوتها إلى حوارٍ وطنيّ، غير مقبولةٍ من بعضِ أطرافٍ أساسٍ في هذا الحوار؛ كما أشار دارسونَ ومحلّلونَ ومراقبونَ، داخليّونَ وخارجيّونَ، إلى عدمِ توقّع محصّلات عمليّة جدّيّة، مِن هذا الحوار الوطنيّ، في حال حصل ضمن هذه الأجواء.
ترى جهاتٌ مختلفةٌ ومتنوّعةٌ، أنّ غالبيّة آمال التّغيير في طبيعة الحياة السّياسيّة ومناهجها، التي يمكن عقدها على نتائج الانتخابات النّيابيّة العتيدة، هذا إذا ما حصلت الانتخابات؛ لن تكون، على الإطلاق بمستوى هذه الآمال؛ فحسابات التّغيير الفعليِّ الجِدِيَّةِ، قد لا تتجاوز، ههنا، ١٠ أو ١٥ ٪، في أبعد تقدير، وفاقًا لمؤسّسات الإحصاء.
محاولاتُ الاحتجاجِ ومساعي الدّعوةِ إلى التّغييرِ وحتّى نداءات الثّورةِ، على الأصعدةِ الشّعبيّةِ كافّة، لم تؤدِّ سوى إلى مزيدٍ مِن الإحباطِ، وعديدٍ متنامٍ مِن خيبات الأمل الفجائعيّة.
أفواجُ المواطنينَ المغادرين لرحاب الوطن، وخاصّة من قطاعاتِ الشّبابِ وذَوِي التّخصّصاتِ العالية، أكّاديميًّا ومهنيًّا؛ لا تتوقّفُ، على الإطلاق، عن الإلحاحِ المُرّ على طلب أذوناتِ الهجرةِ، أو على الأقلّ موافقات العملِ الطّويل المدى، مِن سفارة كلّ بلدٍ قادرٍ على منح تلك الأذونات للهجرة أو هذه الموافقاتِ على العمل.
ما عادتِ المُرَتّبات والمكافآت والحوافز المخصّصة للموظّفين، كما للأسلاكِ العسكريّةِ والأمنيّةِ، بكافيةٍ أبدًا؛ على تأمينِ، وَلَوْ نواة متواضعة، لمتطلّباتِ الحدّ الأدنى مِن العيشِ الكريم.
حوادثُ الانتحارِ، في تزايدٍ لافتٍ لانتباهِ حتّى أولئك الذين يُجيدون تجاهلَ الواقعِ؛ وحبلُ الجرائم الاجتماعيّةِ والاقتصاديّةِ، صار أقوى بكثير مِن أن لا يُبالي به قادة يدّعون أنّهم لا يعيشون إلّا في سبيل عزّة المواطنِ ومِنعة الوطن.
التّحضيراتُ للانتخاباتِ النّيابيّةِ العتيدةِ، هذا إن حصلت، تشهدُ تنافسًا تَناتُشِيًّا طاحنًا، في احتسابِ الأصواتِ وزرعِ مثالبِ الخصومِ والتّنازُعِ الأهوجِ، بين أنصارِ هذا المرشّحِ أو ذاكَ؛ فكلٌّ يسعى إلى جَلْبِ تأييدٍ شَعبيٍّ لصاحِبِهِ.
تأتي ثالثةُ الأثافي، في هذا المضمارِ، إذْ لا يُقْرَأُ، أو رُبّما لا يكونُ، احتجاجٌ شَعبيٌّ، يُنْشَرُ على مساحاتٍ شاسعةٍ مِن ترابِ الوطنِ وأرضهِ ومصالحِ ناسه، إلّا على أنّه فِعلُ نِكايَةٍ مِن زعيمٍ في وجهِ زعيمٍ آخر.
كَثْرَةٌ مِن مفكِّرين ومثقّفين أدماهم وَجَعُ هذا الانهيار، حَيَّرَ جميعَ تحليلاتهم، وأطاحَ بكثيرٍ من رؤاهم للتّغيير. بعضهم، آثر رحيلًا عن البلد،؛ ومنهم مَن ارتأى لذاته انكفاءً وعَضًّا، لا هوادةَ فيه، على جَرحِ الخيبة.
امتدادُ مآسي هذا الوضع وانتشارها، سيصبحُ في قريبٍ عاجلٍ، نارًا تأكلُ هشيمَ هذا البلد الذي يعيشُه اللّبنانيّون؛ وستكون نارًا عشواءً، لَنْ تُبقِ ولَنْ تَذَر. ستبقى الأرضُ وحدها، عامرةً برمادِ الخرابِ، وقد اندثر عنها كلّ ما هُوَ لبنانيّ يعتزّ به اللّبنانيّون. والأرضُ، وفاقَ مساراتِ التّاريخِ وحكاياتِهِ، سَيَرِثُها أُناسٌ سيعملون على اتّخاذِها مَطرَحًا لِقِيَمٍ لهم ومسرحًا لطموحاتٍ يرتضونها؛ غير أنّها قد تكون غيرَ القِيَمِ والطّموحاتِ، التي عرفها اللبنانيّون واعتزّوا بها وسعوا إلى تطويرها. سيخسر لبنان بنيه؛ كما سيخسر اللّبنانيون أرضهم.
أهكذا يكونُ الطّموحُ الوطنيّ، أو بهذا يكونُ التّطوّر الوطني؛ أم هكذا يكونُ الجنون الوطنيّ المطلق، ويتحقّقُ الإجرام الموصوف بحقّ الوطن؟
ثمّة طريقان: اليأسُ، أحدهما؛ والانتصار على هذا الانهيار ثانيهما. لَئِن كان اليأسُ المُطْبِقُ حَلًّا، عند بعضهم؛ فهذا اليأسُ لن يكون سوى أشَدَّ بؤسًا وظلمًا ووحشيّةً وإجرامًا، من كلّ هذه الأمور؛ التي ما برحت ترتعُ، بعُهرها الفاحش، فوقَ مصيرِ الشّعبِ اللّبنانيِّ بأسره.
ينطلق فعل الانتصار، أساسًا وبدايةً ورأيًا ورؤيةً، من موقفٍ فكريّ ثقافيٍّ حاسم؛ سُداهُ الدّيموقراطيَّة ولُحمتهُ الحقّ الكامل في المُواطنة الشّاملة لجميع ناس الوطن. لا بدّ، تاليًا، من خلاص من الولاءات الخادعة والانتساب إلى الزّعامات الفارغة والاحتكام إلى المعايير الضّبابيّة والقِيَمِ المُصطنعة. الانتصار بداية لمعركة شديدة المراس، طويلة المدى؛ غير أنّها المعركة الجوهريّة لاستعادة لبنان؛ ولبنائه مجدّادًا، وطنًا للحريّة وللحقّ الوطنيّ ولكرامة الإنسان واحترامه ولرؤى الثّقافة الكونِيّة الرّائدة.
يبقى، أنِّي لا أجدُ، اليومَ، وفي خضم هذا الأسى القاتل، إلا أن أستعيد قَوْلَ الشّاعر العربيّ، الحضاريِّ اللّبنانيّ، خليل حاوي؛ وقد قضى نحبه على أرض لبنان، مضرّجًا فوق ثراها الطّاهر، بقاني دمه؛ ينزفُ روحه، من عينهِ اليُسرى وجبهته الشّامخة، يوم الثّامن من حزيران سنة ١٩٨٢؛ رافضًا دخول الجيشِ الصّهيونيّ المجرم والغاصبِ، إلى سيّدةِ عواصمِ العربِ “بَيروت”:
(أَيْنَ مَنْ يُفْنِي وَيُحْيي وَيُعِيدْ
يَتَوَلَّى خَلْقَ فَرْخِ النَّسْرِ
مِنْ نَسْلِ العَبِيد؟
وَمَتى نَطْفُرُ مِنْ قَبْوٍ وَسِجْنِ
وَمَتى رَبَّاهُ نَشْتَدُّ وَنَبْني
بَيْتَنا الحُرَّ الجَدِيد؟)
متى، أيّها اللّبنانيّون؛ متى؟!!
*رئيس ندوة العمل الوطني – لبنان