كتب واصف عواضة – الحوار نيوز
في لقاء جمع نخبة من الاختصاصيين والإعلاميين ،أقيم في نقابة محرري الصحافة اللبنانية في الحازمية ،قدّم البروفسور الطبيب أمين حداد كتابه الجديد باللغة الفرنسية تحت عنوان “مائة عام من الإنحدار”( Cent ans de déclin)،وهو يتناول أزمات ومشاكل لبنان على مدى مائة عام ،ويطرح أسئلة حول الحلول المرتجاة على مختلف الصعد.
يُعدّ الكتاب في قراءة أولية ،وثيقة قيّمة في ظل الإنهيار الذي يشهده لبنان ،وقد وضع الكاتب نفسه خارج الإصطفافات السياسية،وهو يرى أن “لا حلول في لبنان ما لم نتفق على معايير معينة ،ولا يمكن نجاح أي خطة أو مشروع في ظل العقلية السائدة”.
ويلخص الكتاب رؤية الكاتب على الغلاف الأخير بالقول:
“كان مصير لبنان الكبير المُعلن عام 1920 أن يصبح نموذجًا للتنوع ، بل وحتى بلدًا إرساليًا. بعد وقت قصير من ولادتها ، أُطلق عليها لقب سويسرا الشرق الأوسط. ومع ذلك ، خلال قرن من الزمان ، استمرت البلاد في المعاناة من أزمة بعد أزمة ، مما أدى إلى تدهور تدريجي في حكمها حتى الإفلاس التام للدولة في عام 2020.”
” لماذا سلكت هذه البلاد طريقا معاكسا لذلك المقصود لها؟
” من خلال نهج أصلي يعيد النظر باختصار في تاريخ لبنان والتوترات الجيوسياسية الإقليمية والنسيج الاجتماعي والتقاليد والعادات والعادات التي أدت إلى تكوين شخصية لبنانية بدلاً من هوية وطنية حقيقية ، تصبح التفسيرات أكثر وضوحًا. إن إضعاف الوطن وإفلاس الدولة يمثلان النتيجة المنطقية لتدهور بدأ قبل عدة عقود.”
والدكتور أمين حداد في الأساس طبيب متخصص في أورام الأنف والأذن والحنجرة. بعد عودته إلى بيروت بعد ثلاثة عشر عامًا في كندا ، تابع مسيرته المهنية في المستشفى والجامعة وتقلد عدة مناصب مسؤولية في المستشفى وكذلك في كلية الطب التي عين عميدا لها. وهو مقيم اليوم في فرنسا، وفي رأيه ، كان عدم التزام اللبنانيين بمشروع وطني مشترك يمثل دائمًا تهديدًا لمستقبل البلاد.
ندوة ونقاش للكتاب
رافقت تقديم الكتاب ندوة ونقاش شارك فيه الحضور ،وفي مقدمتهم نقيب المحررين جوزف القصيفي وأعضاء مجلس النقابة علي يوسف وواصف عواضة وصلاح تقي الدين (أدار الندوة) وسكارليت حداد(شقيقة الكاتب)، الزميل بول خليفة(الذي قدم للكتاب) نقيب الأطباء السابق البروفسور شرف أبو شرف والدكتور عادل عقل والدكتور جورج ملاط ونخبة من الإعلاميين والصحافيين .
كلمة نقيب المحررين
النقيب القصيفي إستهل اللقاء بكلمة عرض فيها ملخصا للكتاب ونبذة عن البروفسور حداد فقال:
الدكتور أمين حداد هو أبن الاستاذ شديد الحداد الذي ينتمي الى عروس البقاع زحله، حيث وادي البردوني، التي إختصها امير الشعراء احمد شوقي بقصيدة خالدة حملت عنوان: “يا جارة الوادي” التي لحنها الموسيقار محمد عبد الوهاب، وادتها ايقونة الغناء فيروز. وكذلك كنارة الطرب نور الهدى. وهي لا تزال من الاغاني الراسخة في ذاكرة اللبنانيين والعرب. من هذه المدينة التي انبتت الشعراء والادباء، ورجالات الفكر والفلسفة والعلم والسياسة، تحدّر أمين الذي درس الطبّ وبرع فيه، وذاع صيته بدقة تشخيصه، وحسّه الانساني المرهف، الذي جعله طبيباً صاحب رسالة لا تجارة. فهو ورث النزاهة عن والد موظّف ذكي، كفي، عرفته الادارة اللبنانية مخلصاً لعمله، لم تتلوث يداه بمال حرام، او سمعته باستغلال سلطته، ولم يكدّس الثروات، كما هي حال العديد من الموظفين الذين تولوا مناصب رفيعة وحساسة في الدولة اللبنانية.
ضيفنا اليوم إذن لم يكن مجرد طبيب يمارس واجبه تجاه مرضاه، ويعود إلى منزله رباً لعائلة يسهر على تربيتها، فحسب. بل كان شديد التفاعل مع احداث لبنان والتطوّرات التي مثلت وتمثل فصولاً على أرضه، ويتبصّر في أحوال البلاد ويتألم لما أصابها من وهن وتفكك، ويبحث عن الاسباب التي أوصلتها الى هذا الدرك، لا بل القعر السحيق الذي يستحيل الخروج منه، اذا لم تطرأ زلزلة تعيد تشكيله وبناءه من جديد، انطلاقاً من تغيير يبدأ من القاعدة، أيّ من الشعب اذ يستحيل بناء دولة المواطنة من دون ان يبدل المواطنون ما في نفوسهم ،وسلوكهم الذي تطغى عليه المعليشية، ويصطفلو، ووقفت علّي. فهل من معجزة تحقق للبنان ما يحتاجه ليعبر الى رحاب الانقاذ؟
الدكتور امين حداد، ونتيجة معاينات ومعاناة، وقراءات وتأملات، توصّل الى خلاصات أودعها في كتاب إختار له عنواناً “مائة سنة من الانحدار – الاحتضار اللامتناهي للبنان الكبير”، وفد كتبه بلغة فرنسية أنيقة، ويقع في 165 صفحة من الحجم المتوسط، صدر عن دار ” لارماتان – باريس”، قدّم له الصحافي بول خليفه. وتتصدر غلافه الخارجي صورة معبرة عن الانفجار الهيروشيمي لمرفأ بيروت.
يعرض الكتاب لتاريخ لبنان منذ اعلانه دولة كبيرة في الاول من ايلول 1920، معدداً ما مّر به من مراحل، من دون أن يغفل ذكر محطات من الحقبة القديمة ، وما تخللها من شعاعات ضوء خاطفة، واحباطات وخيبات. ووجد أن سمة الطائفية والقبائلية، والمناطقية، والانتهازية، والتسابق المحموم على إمتلاك السلطة، وهشاشة التماسك الوطني، كانت لصيقة بتكوينه. لكنه اشار أن لبنان استطاع على مدى نصف قرن ويزيد (1920 – 1975)، أن يكون مرفأ العرب، مصرفهم، جامعتهم، مستشفاهم، مطبعتهم، صحافتهم، ووجهتهم السياحية الاولى. بل كان رئة الحرية في هذه المنطقة من العالم. وذلك على الرغم من التحديات العميقة التي واجهته مع إعلان دولة اسرائيل الغاصبة، وتدفق اللاجئين الفلسطينيين الى أرضه، واحداث العام 1958، وتعاظم نفوذ المقاومة الفلسطينية وما خلفته من تأثير.
وان كان التوجه النقدي المشفوع بعلائم الاستفهام حول المسار العام للدولة اللبنانية، وما يعصف بها من أخطار بنيوية اعاقت الوصول الى دولة المواطنة ، الدولة المدنية، التي يكون الولاء فيها للبنان ومؤسساته الشرعية، ما فتح الباب بين الفينة والأخرى أمام طروحات اشكالية كالتقسيم والفدرالية، او الخروج على قاعدة الديموقراطية التوافقية، هو الاسلوب الغالب على كتاب ضيفنا، فان ذلك لم يمنعه عن التوقف باعجاب عند التجربة الشهابية في الادارة لكنه عزا الاطاحة بايجابيات هذه التجربة الى الاختلالات العمودية في التركيبة اللبنانية، وتجذر النزعة الفردية، وغياب الحّس المواطني. وفي هذا السياق سجل عدداً من الملاحظات، أهمها ما ورد في الصفحة 24 من الكتاب، وابرز ما جاء فيها:
1- سهولة لجوء الطوائف لقوى خارجية لتسوية الصراعات الداخلية في ما بينها.
2- مبالغة كل طائفة في تقدير مدى قوتها في مواجهة نظيراتها، مع وجود ميل لاستخدام هذه القوة لفرض قانونها الخاص بها.
3- غياب المساءلة عن السلوك الخاطيء، الاستفزازي، بل التوتاليتاري.
4- التبرير في نهاية كل صراع لقاعدة لا غالب ولا مغلوب.
5- عدم القدرة على التفاوض المباشر بين مختلف مكونات الصراع، الامر الذي يدفع الى السعي الممنهج وراء حلّ يأتي من الخارج.
ان كتاب الدكتور أمين حداد، يدّل الى عمق ثقافته، وأجادة استخدامه اللغة في التعبير عن أفكاره، وقدرته على تقديم مادته باسلوب مكثّف يختصر الكثير من التفاصيل ويبرز ما تقتضي الضرورة العلمية والادبيّة ابرازه. وهو كتاب يقرأ، ويستحق أن يحتل مكانة متقدمة في المكتبة اللبنانية. وأنصح واضعه بأن يترجم الى لغتي : الضاد وشكسبير، ليتسنى لمروحة واسعة من اللبنانيين المقيمين والمنتشرين ممن لا يعرفون أو لا يحسنون لغة راسين الاطلاع عليه.
وأخيراً لا بد من التنويه الى ما أورد الدكتور امين حداد في ختام مؤلفه من تساؤل يشوبه الالم والحزن “اين هو لبنان التنوع، بلد الحريات الجميل، والمعرفة والانفتاح، لبنان الرسالة الذي فيه نشأت وكبرت؟” ويضيف: “هل كان وهماً ما شهدت في فترة من حياتي، من تدمير ممنهج له ، على يد شعبه”؟ ومع ذلك فلا يظنن أحد ان المؤلف كفر بلبنان، فهو عاد وعائلته من كندا حيث الرفاهية وفرص العمل الجيد ليستأنف حياته في وطن الارز على الرغم من الصعاب التي تحوطه، فوطنه بالنسبة اليه هو الحبيب الاول والاخير. لكنه تعمد ان يطرح الاسئلة الموجعة، ويدّل الى مكامن الاخطاء والاخطار، ويفتح الباب أمام عصف فكري، علّ ذلك يقود الى حالة وجدانية، وطنية، تؤسس للبنان الذي نحلم به. فأبواب الرجاء لن تظل موصدة طالما هناك مؤمنون به.
تقي الدين
وألقى الزميل تقي الدين الذي أدار الندوة كلمة جاء فيها:
نجتمع اليوم لنرحب بالدكتور أمين حداد ومناقشة كتابه “مائة عام من الانحدار” الذي إن صح القول يعبّر عن مرارة دفينة تعانق نفوس كل اللبنانيين، لكن الطبيب البارع في مهنته بشهادة مرضاه وأقرانه في المهنة، أبرزها في كتاب هو بين أيديكم، وصاغها بلغة بسيطة نابعة من القلب لتصل إلى القلوب.
يؤكد الدكتور حداد أن كتابه ليس سيرة ذاتية لكن السردية التي وضعها في وصف الوضع الذي وصل إليه بلد الأرز، الذي تربى على حبه والانتماء إليه وحلم بأن يتقدّم ليكون موضع فخره واعتزازه، معتبرا أنه منذ قيام دولة لبنان الكبير لم يحقق لبنان ومسؤولوه السياسيون أي خطوة تجعلهم قدوة للأجيال المتلاحقة لا بل أمعنوا في استغلال كل ما وفّره لهم البلد “الرسالة” و”سويسرا الشرق” لمصالحهم الخاصة دون أي اعتبار للمصلحة الوطنية العليا ما جعل البلد ينهار رويداً رويداً، وهذا الوصف يشبه في معظمه ما يمكن لأي مواطن عايش ويعايش اليوم الانحدار غير المسبوق الذي وصلت إليه البلاد أن يقوله ويعبّر عنه.
لقد تعايش االمؤلف مع احداث لبنان والتطوّرات التي حصلت على أرضه، وراح يتأمل في أحوال البلاد ويتألم لما أصابها باحثاً عن الاسباب التي أوصلتها الى هذا المنحدر، لا بل إلى القعر السحيق الذي من الصعب الخروج منه، ليخلص أن التغيير المنشود ليعود لبنان إلى أصالته وموقعه المفترض يبدأ من الشعب المستسلم لارادة “زعيمه” الذي لا هم له سوى تعزيز زعامته على حساب المصلحة الوطنية العليا.
بول خليفة
ثم القى الزميل بول خليفة مداخلة جاء فيها:
ان الطبيب الناجح هو الذي يشخص الحالة المرضية بشكل صحيح لأنه اذا لم نشخص لا يمكننا ان نجد العلاج وبرأيي هذا الطبيب الناجح الذي مارس على مدى عقود هذه العقلية وهذه الفلسفة في مهنته سيتبع نفس الاسلوب في الكتابة. خصوصا ان مشكلة لبنان هي في ان قلة من الباحثين الذين حاولوا ان يشخصوا مشكلته الحقيقية ولهذا لم نجد الحلول للازمات المتراكمة التي تترجم كل عقد ونصف بحروب ونزاعات داخلية. ومن هنا كان جوابي ان هذا الطبيب يستطيع ان يشخص بشكل دقيق ما هي المشاكل التي يعاني منها لبنان. وعندما قرأت الكتاب لاحظت ان الكاتب كان لديه القوة والجرأة والشجاعة الكافية ليتحرر من الافكار المسبقة التي نتأثر بها جميعنا بحكم محيطنا والثقافة والايدولوجية والسياسة ورأيت انساناً متحررا من الافكار المسبقة.
وسأل خليفة الدكتور حداد هل اننا في لبنان نرمي الحق على التدخلات الخارجية او نرمي الحق على طبيعة تركيب نظامنا او على طبيعة الشخص اللبناني ، هل تعتقد ان واحداً من هذه المقاربات هي الصحيحة وتفسر الوضع الذي نحن فيه؟
كلمة حداد
وأجاب د. حداد: اشكر اولاً نقابة محرري الصحافة ونقيب المحررين جوزف القصيفي والصحافي وبول خليفة. ان هذا الكتاب مبني على مجموعة من الاسئلة بدأت منذ الثمانينات ولماذا يصير ببلدنا هذه الازمات. وهل لاننا ارتكبنا اخطاء او قرارات اتخذها البعض او حلمنا حلماً غير واقعي؟. نحن تربينا على احلام معلبة وهي من عائلاتنا وبيئتنا او من السياسيين او الاعلاميين واصبحنا اولياء للشخص وليس الولاء لمشروع. وفي عودة لذواتنا نرى ان الزعيم لديه اخطاء وقد حان الوقت لاقرر اين سألتزم او لا التزم.
أضاف:علينا أن نقرأ ونسمع الشيء وضده لكي نتمكن من الخروج من التعليب.كل الطوائف اللبنانية للأسف لها قدم خارج لبنان،فهل يريد أحد للنان أن يكون وطنا نهائيا؟
وختم: “لا يوجد حل الا بالاتفاق على معايير معينة. مثلا يطرحون الفيدرالية ،فماذا تعني الفدرالية وأنا لست معها؟.. قد لا يحب السويسريون بعضهم بعضا ،لكنهم يحترمون بعضهم ،ولذلك نجحت الفدرالية عندهم .على كل فرد منا ان يحترم الآخر ونتفق على مبادئ عامة لحل الخلافات والاتفاق على مشروع لبناء الوطن.وهذا لا يعني أنني مع الفدرلة،بل يجب أن نحترم بعضنا لنبني وطنا.
ابو شرف
وتحدث نقيب الاطباء السابق البروفسور شرف ابو شرف فقال: نحن نفتخر في نقابة الاطباء بالاطباء الذين يتمتعون بموهبة ثقافية، ونحن نحاول قدر المستطاع ان نحافظ على مستوى يليق بنا وببلدنا. والامر الثاني يلزمنا اواصر مشتركة نبني عليها لنتمكن من بناء الوطن. وقد زرت السويد منذ فترة وكانوا يحتفلون بالمئوية للديمقراطية في بلدهم. مع العلم ان السويد كان مثل لبنان بلدا فقيرا، وشعبه يهاجر، وبعد مئة سنة من الاواصر المشتركة التي خلقوها وبالاستقامة والاخلاق وصلوا الى ما وصلوا اليه. انا مؤمن ان اللبناني قوي وخلوق ولكن ينقصه قائد نثق به. ومن جهة اخرى يجب ان نعتمد التخطيط الى الامام في اطار التعاون مع بعضنا البعض لبناء البلد من جديد.
ثم جرت مناقشة للكتاب من الحضور، واجاب الدكتور حداد على الاسئلة.