العالم العربيسياسة

ليبيا تعيش تجربة العراق : صراع نفوذ دولي ومقاربات أُخرى (جواد الهنداوي)

 

د.جواد الهنداوي – الحوارنيوز

         لم تتكاثر السلطات السياسية والحكومية والفصائل المُسلحّة الشرعية وغير الشرعية ، والتدخلات الخارجية الدولية والاقليمية والعربية في بلد آخر ، مثلما تكاثرت في دولة ليبيا . ففي شرق البلاد حكومة بنغازي او حكومة مجلس النواب  او حكومة المارشال خليفة حفتر ، وفي غربها حكومة الوحدة الوطنية او حكومة طرابلس  والمعترف بها أممياً و دولياً ، وما بينهما هيئات ومؤسسات وشخصيات و احزاب سياسية ، وللدولة مجلس رئاسي و مجلس أعلى .

     و بالرغم من تعقيدات و تنوعات فواعل المشهد السياسي الليبي ، الاّ انه يثري عالم السياسة والعلاقات الدولية بتجربة اخرى ، مشابهة لتجربة المشهد السياسي في العراق ،من حيث تشابك العلاقات بين قوى الداخل السياسية وقوى الخارج الدولية . ففي العراق كان لجميع القوى السياسية الفاعلة ، وعلى اختلاف انتماءاتها القومية و المذهبية علاقات تبادل وتفاهم و مصالح مع امريكا من جهة، وايران من جهة اخرى ، بل وساهم العراق إلى جمعهما وسعى إلى تقاربهما في ما يخّص الملف النووي .

ذات المسار و ذات التشابك العلاقاتي  نجده ايضاً بين القوى السياسية الليبيّة ، والمتنوعة ايضاً في انتماءاتها ، و القوى الدولية او العظمى الفاعلة في ليبيا ، وهما روسيا وامريكا . فالمارشال خليفة حفتر و أبناؤه و حكومته في الشرق ، و المحسوبون على روسيا ، والتي تدعمهم بالسلاح و المساعدات الاقتصادية و الخبرات ، لهم علاقاتهم و اتصالاتهم او تواصلهم مع الادارة الأمريكية و السفير الأمريكي في طرابلس ،ومع المبعوثين الأمريكين إلى ليبيا . كذلك حكومة الوحدة الوطنية في غرب ليبيا و برئاسة السيد الدبيبة ، والمدعومة دولياً و غربياً ،لها علاقاتها وتعاملها مع روسيا ، ورئيس الحكومة و اعضاء مجالس الرئاسة في دولة ليبيا لهم لقاءاتهم الرسمية مع القيادات في روسيا .

بين ما عاشهُ العراق في مساره بعد تغير النظام عام  2003، و ما تعيشه الآن ليبيا وبعد تغير النظام عام 2011، مقاربات أخرى توحي بالأمل و التفاؤل في تجاوز المحن والتحديات . فالعراق وبالرغم من الاختلاف في الرؤى والتنافس على السلطة والصلاحيات بين مكّوناته ،لم ينجر البلد إلى أتون حرب اهلية ، واستطاع احتواء المواقف العصيبة المنتجة في الداخل او المُصدّرة من الخارج . ليبيا اليوم ،هي في ذات حال العراق في الأمس ، فبالرغم من التنافس على السلطة والاختلاف في الاجندات والرؤى بين شرقها ( حكومة خليفة حفتر ) وغربها ( حكومة الوحدة الوطنية ) ، وكذلك الاحتراب بينهما ، و لكن  لم تنحدر  ليبيا الوطن إلى مستنقع الحرب الاهلية ، ولا إلى الانقسام ،ما دام هناك تواصل سياسي و حوار بين الفرقاء في الداخل، وبينهم و بين مَنْ يعينهم من القوى الدولية او الاقليمية .

 ما يحمل على التفاؤل ازاء ليبيا أمران : الاول هو انَّ الفرقاء اعتادوا التواصل والحوار ، و لكل طرف منهم حصّة في السلطة وفي الحكم وفي ادارة الثروات ،الأمر الذي يجعلهم حريصين على الاستمرار على العمل لإيجاد ارضية مشتركة يقفون عليها جميعاً يداً بيد ، وكل سنة تمضي وهم في تواصل و حوار وادارة للبلد وعلاقات دولية ،تتراكم خبراتهم ،وتميل رغباتهم إلى مزيد من الحوار .

و الأمر الثاني هو أنَّ الدول العظمى ، والتي تتنافس على النفوذ السياسي والاقتصادي في ليبيا ( امريكا و اوروبا من جهة ،و روسيا من جهة اخرى ) لهم ايضاً مصالحهم المتفرقة في شرق و في غرب وفي جنوب ليبيا . اعني من ذلك ،بأن اهتمام امريكا لا يقتصرُ على طرابلس و غرب ليبيا ،حيث حكومة الوحدة الوطنية ، و انما اهتمامها يمتدُ أيضا إلى شرق ليبيا وجنوبها . واهداف امريكا واضحة في ليبيا وفي كل ليبيا ،  حيث حقول النفط و الغاز والموانئ الاستراتيجية ، وقواعد لمكافحة الإرهاب في افريقيا ، و احتواء او صّدْ النفوذ الروسي ، و مكافحة الجماعات المسلحة الموالية لروسيا مثل قوات “فاغنر” وكذلك الفيلق الافريقي الذي تم تشكيله في بداية عام 2024 ، وسيكون فاعلاً في الشهر المقبل .

كذلك روسيا ،هي ايضاً مهتمة، ليس فقط بجغرافية حليفها خليفة حفتر، وانما ايضاً بكل ليبيا ولذات الاسباب والاهداف المرجوّة من امريكا ، لذا نجد روسيا حريصة على تفعيل قنوات الاتصال والتعاون مع حكومة الوحدة الوطنية برئاسة السيد محمد الدبيبة .

مصالح روسيا وامريكا في ليبيا تجعلهما حريصتين على عدم نشوب حرب اهلية او حرب بين الفرقاء في ليبيا .

امريكا تريد استمرار تدفق النفط و الغاز واستثمار ليبيا المستقرة ، كقاعدة انطلاق نحو الدول الأفريقية.كذلك روسيا واهتمامها ينصب، ليس على تدفق النفط، وانما الاستثمار في قطاع النفط ، وليس على مكافحة الإرهاب ، و انما على توظيف وجودها في ليبيا لمّد نفوذها نحو دول الساحل الأفريقي .

   من مصلحة جميع الفرقاء في ليبيا ،( و اقصد القوى السياسية الليبية بمختلف انتماءاتها ) ، ومن اجل ليبيا موحّدة ،أنْ يحافظ الفرقاء على التوازن في علاقاتهم مع الفواعل الدولية ( امريكا ،اوروبا ، روسيا ،تركيا ، مصر ) ، المفروضة على الساحة الليبيّة ، ليتمسك الفرقاء بقاعدة التوازن ، و هدف ابقاء ليبيا موحّدة ، والسعي لسيادتها واستقلالها ، وليدع الفرقاء القوى الدولية تتنافس في ما بينها ، وتحتوي او تقزّم او تزيل الواحدة الأخرى .

أليوم و اكثر من الأمس  ،يُحَتّمُ التنافس والصراع على النفوذ بين روسيا وامريكا في ليبيا ، و انطلاقاً من ليبيا ، في أفريقيا ، وخاصة في دول الساحل .

لماذا اليوم اكثر من امس ؟

لأنَّ روسيا اكملت اجراءاتها بتشكيل الفيلق الأفريقي ، وسيبدأ عمله و انتشاره في ليبيا وفي بوركينا فاسو وفي مالي والنيجر ، و ادركت امريكا و دول الناتو جدّية وعزم روسيا على نشر وتعزيز نفوذها في ليبيا ،و انطلاقاً من ليبيا نحو دول الساحل الإفريقي ، مستفيدة من الانتصارات التي حققّتها في اوكرانيا ومن الوضع الصعب الذي تعيشه امريكا وإسرائيل في حرب الابادة في غزّة .

و الفيلق الإفريقي هو التشكيل المسّلح الجديد الذي أسّسته روسيا ليحل محل قوات “فاغنر” ، ويرتبط مباشرة بوزارة الدفاع الروسية ، وقوامه ما يقارب 30 الف مقاتل ،ومن جنسيات مختلفة ، ومهامه هو حماية المصالح الروسية في ليبيا وفي أفريقيا و دعم النفوذ الروسي ، وقد بدأت روسيا بتشكيله في شهر يناير /كانون الثاني من هذا العام .

لصالح مَنْ سيحُسم صراع النفوذ بين روسيا و امريكا و الغرب ولماذا ؟

لا تستطيع امريكا وحلفاؤها ابعاد او احتواء الدور الروسي و النفوذ الروسي . لروسيا دور ميداني و سياسي في ليبيا ، اي روسيا متواجدة على الارض في روسيا ، بقوات عسكرية روسّية في شرق وجنوب ليبيا وبالتنسيق مع مجلس النواب و المارشال حفتر ، لغرض الاستشارة والتدريب و دعم الامن و الاستقرار ،كما يدّعي الطرفان الليبي و الروسي ، و الآن يتم تعزيز هذه القوات بالفيلق الافريقي المتعدّد الأغراض و الوجهات .

لروسيا في ليبيا تاريخ وإرث سياسي وعسكري لما يقارب مدة حكم القذافي ،والتي امتدّت لأربعين عاما .

كذلك قوى اقليمية فاعلة في المحيط الليبي ( تركيا ومصر ) ميّالة لتفضيل الدور الروسي على الدور الأمريكي في ليبيا ، ولكل دولة اسبابها .

أضف إلى هذا وذاك،  شعور وارادة الشعب الليبي تجاه امريكا وأدوارها في العالم وفي المنطقة  ، ومساندتها لما تقوم به إسرائيل من جرائم وحرب ابادة للفلسطينين في غزّة والضفة الغربية . كل هذه العوامل تجعل الدور الأمريكي و النفوذ الأمريكي غير مُرحّب بهما ،لا في ليبيا و لا في أفريقيا ، ولا حتى في العالم .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى