د.نسيم الخوري* – الحوارنيوز خاص
أكثر من صحيح أنّه” في البدء كان الكلمة، وكانت الكلمة هي الله”، لذا جعلت همّي التدقيق في إعادة قراءة مواثيق الشرف الإعلامي في لبنان حيث صارت الكلمة تحمل القذائف بين حفنة “زعماء” يضحكون في الشاشات ،وإعلاميوهم وملايين من المواطنين يعتذر الحبر عن وصفهم .
أتذكّر طاولات الحوار الوطني التي لم تتجاوز تجاور هؤلاء والضحك حول طاولة في البرلمان أو في القصر الجمهوري أو حول ماكرون ورؤساء العالم. يا للعار من نماذج العيب في بلدٍ لا يتجاوز فتحة صدفةٍ في المحيطات . لطالما بُحّت الحناجر واهترأت أصوات الناس طلباً لرحمة حكّام من فولاذ، لربّما يُسقطون أقنعتهم أو يغسلون وجوههم وخطبهم والتصريحات والبيانات وإعلامهم بزيوته الملتهبة تُشيع الحرائق بين كلمتي الحريّة والمسؤولية.
لا جواب. رؤوس من صوّان … أكلت شعب لبنان وشربته وهجّرته و…. وهي تضحك.
أيُعقل أن تبقى الحرية حريّة غابة مطلقة لا تشدّها ألفها واللام إلى الوراء؟ لستم وليست شاشاتكم زجاجا تتهشّم مراكمة الجروح والفقر والتسوّل والعناد السخيف والأحقاد والنيران لا الأنوار؟
صُعق بقايا اللبنانيين إذ نصحت بريطانيا ( 16/11/2020) رعاياها بعدم السفر إلى لبنان. تأهّبوا مقوّسي الظهور ضامرين في وطن يقوده الفشل، وكأنهم يستقبلون مجدداً الحروب التي خبروا كوارثها وأبعادها وتسمياتها الممجوجة. من يُنكر هذا الواقع هو من جزء من سلاسل الكوارث القادمة. إنّ متابعة مواقفهم المُكدّسة المتناقضة والصبيانية في حروب الإنتخابات البرلمانية بين هؤلاء هم هم أنفسهم يجعل الموت شنقاً أفضل من سماعكم. هكذا تتجرجر المسؤوليات كليّاً بين أرجل الحريات السياسية والإعلامية وسلطاتهما.
لنصرخ بأن توزيع وسائل الإعلام في ما بينهم أساساً، قوّض السلطات والمسؤوليات وخرّب لبنان. وعندما نذكر السلطة الرابعة، ننتظر من سياسيينا الفهم وارتداء ورقة التين خجلاً من عريهم أولاً ورفع القبعات ثانياً لمطلق التسمية، إدمون بورك(1729-1797)، الكاتب والخطيب البريطاني، وقائد النضال بوجه فرنسا نابليون.
كان عدواً شرساً لحكّام بريطانيا الفاسدين والراشين والمرتشين في الهند . وكان لمقالاته الصحفية في نقد السياسيين بلا اسفاف وتعجرف الوقع الهائل لدى القرّاء، مما دفعه الى تسمية الصحافة ب”السلطة الرابعة” كصفة في كتابه الذي جمع فيه مقالاته ونشره بعنوان:” تأملات في الثورة الفرنسية”. أين السلطة الرابعة في لبنان وكلّ مسؤولٍ يُصدّق نفسه بأنّه قائد أقوى من نابليون ويُعلّق الإعلام والإعلاميين أقراطاً في أذنيه؟
كان نابليون بونابرت يجنّ حيال أي نقد تثيره الصحافة بأكاذيب وزلاّت غير مسؤولة. أمر مرّةً جوزف فوشيه وزير البوليس الإداري في فرنسا بقوله:
” إقمع الصحفيين أكثر وعلّمهم قدسية مسؤولياتهم، واجعلهم ينشرون مقالات حقيقية، وإلاّ فإنني سأوقف الصحف كلّها… لقد انتهى زمن الثورة، ولم يبق في فرنسا سوى حزب واحد. اسمع يا جوزيف. لا شيء يؤلمني ويثير خوفي، أكثر مما تنشره تلك الصحف غير المسؤولة لتعيق الدولة”.
وأسوق هنا ما نقله مترنيخ عن نابليون، وغدا مضرب الأمثال في سلطات الصحفيين . كان مترنيخ سفيراً للنمسا في فرنسا، وقرّبه نابليون منه حتّى كلّفه التفاوض بشأن زواجه من عشيقته ماري لويز. قال له:” إنّ مقالة صحفية ملفّقة تساوي جيشاً من 300 ألف جندي. هؤلاء الجنود لا يراقبون الداخل، ولا يخيفون الخارج أفضل من دزّينتين من الصحفيين”. كان نابليون بعتزّ بصحيفته Le Monitor ويعتبرها روح الحكومة، وسلطتها وقوّتها، ووسيلتها الى الرأي العام في الداخل والخارج… إنّها أمر اليوم بالنسبة الى سياسات الحكومة.
بالقفز إلى سلطات الشاشات ، أذكّر بالكاتب الفرنسي شاتوبريان( 1768-1848) الذي هاجر الى أميركا ، وعاد مع قيام الثورة الفرنسية ليحظى بعطف خاص من نابليون الذي جعله سفيره في بريطانيا ثمّ وزيراً للخارجية. كلّ ذلك لم يمنعه من المعارضة القوية لحكومات ملك فرنسا شارل العاشر. جاء يحضّه في رسالته إليه على الإقرار بسلطات الصحافة:
” كانت الصحافة عنصراً مجهولاً في الماضي، وسلطة فائقة أدخلت الآن في العالم. لإنّها الكلام في حلّته السريعة. إنها الكهرباء الإجتماعية، لا يمكنك تجاهل وجودها، لكن عليك أن تلقّنها المسؤولية الكاملة؟ إنّك كلّما زعمت بأنّك ملمّ بها وتفهمها، ازدادت حدّة انفجارها وفجورها، وأضحت أكثر عنفاً… يجب علينا التمرّس بها اتّقاءً لمخاطرها التي ستحرّك البشرية وتتعبها من الآن وصاعداً وخصوصاً إن أصبحت في إمرة القادة”.
لقد بلغ شاتوبريان الذروة، وهو يصف الصحافة المكتوبة بالكهرباء، وهو لم يكن يتصوّر بأنّه كان يؤسّس لكلام يربط فيه الصحافة المكتوبة في تطورها بالشاشة أي بنهر الكلام المتدفق أبداً حيث تصبح الصحافة السلطة الفاجرة المطلقة التي تُدمر الممالك والديمقراطيات والأنظمة تتبعها كما السلطات التنفيذية الإجرائية أي الحكومات ورؤساء الجمهوريات والحالمين بها ، كما تتبعها المجالس التمثيلية كما تتبعها السلطات القضائية ولو كانت في قرص الشمس من حيث رسوليتها.
عفواً! عمّن نكتب في لبنان: الجلاّدون وقد سلخوا جلد الوطن بلا حدود أصلاً فصار ساحاتٍ مذهبية رخيصة، وسلخوا جلود المواطنين يتدافشون وينامون في مطارات العالم وساحاته أو في زوايا مذاهبهم وطوائفهم بانتظار المزيد من حضارات الدمار والتدمير؟
*باحث واكاديمي- لبنان
زر الذهاب إلى الأعلى