لماذا موضوع الحياد الآن يا صاحب الغبطة؟
لا تزال ردود الفعل تتوالى على طرح البطريرك الراعي لقضية الحياد اللبناني ،خصوصاً وأن هذا الطرح بدأ يتخذ منحى تصاعدياً عندما توجه بشكل مباشر إلى اتهام حزب الله بالتسبب بالأوضاع الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية، والغربة عن الدول التي كانت تمثل الدعم والعون والصداقة للبنان واللبنانيين.
والملفت أن حزب الله مصمم على عدم الدخول في أية سجالات مع البطريرك والبطريركية مع عدم موافقته على كل تلك الطروحات التي تخالف في مبادئها وجزئياتها وروحها ما يؤمن به الحزب ويدعو إليه منذ سطوع نجمه كمقاوم للعدو الإسرائيلي، ومنتصر عليه في أكثر من مناسبة، وتحرير الأرض من احتلاله، ومحقق توازن الرعب معه.
ولا يمكن لأي متابع لأي حدث مميّز وله صدى قوي في الأرجاء إلا أن يدرس المناخات التي انطلق في أجوائها مثل هذا الحدث خصوصاً وأن الأوضاع في لبنان تؤثر في مجرياته كل الأحداث الخارجية الاقليمية والدولية، فكيف إن اتصلت مثل هذه الأحداث بواقع لبنان بطريقة مباشرة ومؤثرة؟
لقد انطلقت انتفاضة 17 تشرين عفوية شعبية شارك فيها وأيّدها غالبية اللبنانيين لأنها حاكت وجدانهم ومعايشهم المزرية أمام سلطة جائرة فاسدة، ثم بدأت الصورة تتغير ملامحها في العنوان الغالب للمس بحزب الله وسلاحه والدعوة لتطبيق القرار الدولي 1559. ثم بدأ الانهيار الاقتصادي بأيدٍ أميركية مباشرة وغير مباشرة مدعومة من قوى في الداخل اللبناني لتحميل الحزب عواقب تدخله في سوريا وغيرها. ثم برز ما بات يُعرف بقانون قيصر ضد سوريا أولاً، وضد لبنان بالتبعية لعدم قدرته على الانطلاق وحيداً دون الرئة الوحيدة التي يتنفس منها. ولاحظ الجميع مؤخراً مدى التدخل الأميركي المباشر في التفاصيل اللبنانية الخاصة والدعوة إلى تأليف حكومة جديدة لا يكون حزب الله جزءاً منها لكي يرتاح البلد وتتحسن أوضاعه.
ولا ننسى التفاوض الأميركي مع لبنان لابتلاع ثرواته البحرية لصالح إسرائيل والتي يشكّل الحزب رأس حربة ضد هذه الأطماع واستطاعته الدفاع عن ثرواته في البحر كما استطاع الدفاع عن أمنه في البر، ودون قوة الحزب وسلاحه سيكون لبنان لقمة سائغة بين فكي إسرائيل وستترجم أطماعها إلى حقيقة لا مهرب منها.
وبدأ التدخل الأميركي في عمل اليونيفل في جنوبي لبنان من أجل زيادة صلاحياته وانتشاره ليكون سداً منيعاً ضد أي تواجد للمقاومة وأبنائها عند الدفاع عن الأرض. ولقد هددت الولايات المتحدة بوقف ما تقدّمه من تمويل إن رُفض طلبها.
كما توقّف الدعم العربي المادي للبنان بعكس ما جرت العادة وفي ظروف كانت أقل جدية وخطورة، لأن المطلوب عدم قيامته من أزماته كما يفرض الفيتو الأميركي ولا إرادة عربية يمكنها الوقوف ضد هذا الفيتو.
من هنا طالعنا البطريرك الراعي بطرحه حياد لبنان وتحييده في هذا الوقت بالذات، ليختار، واعياً بذلك أو غير واعٍ، فريقاً من اللبنانيين يتربّصون بالمقاومة منذ انطلاقتها، فساندوه وأيّدوه ودعوا إلى تدويل هذا المطلب وحمله إلى الفاتيكان والولايات المتحدة، فتعزز بذلك التفرّق اللبناني أكثر وزادت مفردات الصراع مفردة جديدة وهي حياد لبنان واللبنانيين. كما عزز الهجمة الداخلية والخارجية على حزب الله ومؤيديه وتحميله أعباء ما آلت إليه أمور البلاد.
فهل جاء هذا الطرح صدفة في وقت تغرق فيه البلاد بكل أنواع الأزمات؟ وهل يمثّل هذه الطرح أية واقعية يمكن أن يُبنى عليها لمرحلة قادمة خصوصاً وأن الحياد ليس إلا مسألة سياسية خلافية يجب أن يقررها اللبنانيون جميعاً من خلال التفاوض والدرس والتمحيص، ولا يحق لأي طرف سياسي، فضلاً عن كونه دينياً من المفترض أن يجمع ولا يفرّق، أن يتفرّد في أمر مصيري كهذا؟ وهل يؤمن البطريرك فعلاً أن لبنان بكل ما يكتنفه من تعقيدات ذاتية وموضوعية يمكن مقارنته بدول كسويسرا والنمسا وهولندا؟
كان يجب أن يكون التوجّه في الوقت الحالي نحو تخفيف المعاناة عن اللبنانيين، بكل أديانهم وطوائفهم، خصوصاً عند من يحملون الصفة الدينية عنواناً، فإن للنصح الديني والاجتماعي أثراً بالغاً عند الناس بدل النصح السياسي والمشاريع السياسية وتأييد طرف ضد طرف وجماعة ضد أخرى في بلد ينقسم الناس فيه باسم كل العناوين والأسماء، ولم يكن ينقصهم التفرّق العمودي والأفقي من شخصية دينية لها ثقلها في وجدانهم وحيواتهم وواقعهم خصوصاً وإننا في مرحلة الانهيار التي تهدد كل أركان الدولة.