لماذا كل هذا الغضب على المفتي احمد قبلان؟
ليست هذه غاية هذه الأسطر الدفاع عن الشيخ أحمد قبلان وما قاله في خطبة العيد أمس، وإنما تسجيل موقف من الحملة الغريبة الشاملة عليه. فالقول إن أصل نشأة لبنان قد تمّ على أساس طائفي هو توصيف للواقع وليس تعريضاً أو شتماً. ولو افترضنا (مع عدم الاعتراف بهذا الفرض) أن هذه الصيغة قد نجحت في زمانها وظروفها والحيثيات الداخلية والخارجية التي كانت تحكمها، إلا أنها بليت واهترأت ولم تعد صالحة للعيش اللبناني السليم والمتقدّم، وكل ما نعيشه اليوم وما عشناه من قبل، من فساد في مختلف الطبقات السياسية وسيطرة العائلات الارستقراطية والاستبداد الذي عانى ويعاني منه أكثرية اللبنانيين من الطوائف والمذاهب كافة، يشي ويدل ويفرض على كل منا رفض مثل هذه الصيغة والسعي لاتفاق حضاري مدني متطوّر لا ينحصر أو ينغلق في حيّز الانتماءات والعصبيات والمناطق.
إنه ليس دفاعاً عن الشيخ، لكنه موقف يستغرب من هذه الحملات المختلفة التي تدافع عن صيغة ال 43، أو اتفاق الطائف، مع أن كليهما لا يلقى إجماعاً وطنياً، ولا يحقق الرغبة اللبنانية في حياة سياسية أو قانونية أو اقتصادية مثلى. أفلا تدل التطبيقات المختلفة في أزمان متلاحقة في السياسة والاقتصاد والقانون و… على أن النظرية تشوبها الكثير من العيوب التي عجزنا جميعاً عن إصلاحها؟ ألا نسمع مراراً وتكراراً من ميادين مختلفة ومتعددة دعوات لإلغاء الطائفية السياسية، أو إلغاء الطائفية عموماً، أو الدعوة الملحّة لعلمنة البلاد؟ فلماذا تسكت الأصوات وتسكن الأوصال عندما يُستشعَر مسٌ في أيٍ من جنبات الطائفة أو المذهب؟ ألم يدعُ المطران عودة منذ أيام لعدم المساس بالمذهب الأرثوذكسي في ما يتعلق بالتعيينات؟ ألم يدعُ المفتي دريان لعدم التعرض لصلاحيات رئيس الحكومة السنّي؟ والحال ذاته في كل مذهب من هذا الفريق أو ذاك، ولا تحظى المواطنة بأي دعم على الأرض ما خلا بعض النظريات الجوفاء التي لا تغني ولا تسمن من جوع.
والسؤال الذي يجب أن يُطرح: لماذا اعتبار كلام الشيخ قبلان رسالة غير مباشرة من الثنائي الشيعي، وحزب الله بالأخص، وتكرار المقولات الدائمة التي لا تنتهي في ما يتعلق بسلاحه ودويلته ودعمه من إيران، وما إلى ذلك؟ مع أن الشيخ يمثّل نفسه ولا يمثل أياً منهما، كما أن أحداً منهما لم يتبنَّ كلامه.
لو درسنا واقعنا اللبناني البئيس، ماضياً وحاضراً، لوجدنا أن مفاصل الضعف والفساد والاستبداد ومعاناة الناس وفقرهم تكمن في تركيبتنا الطائفية والمذهبية التي ليس لها مثيل في أي من بلاد الله الواسعة، وأن هذا التنوّع الذي طالما تغنينا وفخرنا به أمام الآخرين، بات يلزمه إطار سياسي قانوني حضاري ينضوي فيه ويسير على هديه قبل أن نفقد الوطن ومميزاته وهذا الموزاييك الذي ملّ العالم من سماع ضجيجه ونحيبه وصراخه.
ليست المطالبة بصيغة أخرى تنادي بإلغاء أحد، ولا سيطرة أو استبداد فريق على آخر أو طائفة على أخرى أو مذهب على آخر. إنها دعوة إلى المواطنة الحقيقية ضمن دولة القانون التي يتساوى عندها الجميع، ولا تشكّل عقدة يتخبط في وهمها أحد. هذه الصيغة لا يفرضها فريق أو فئة، بل يجب أن يسعى لها الجميع دون إملاءات إقليمية أو دولية، واللبناني الذي يتفوّق في ساحات العالم المختلفة يستطيع أن يجترح دستوراً أو صيغة جديدة تختلف عن ما اجتُرح من قبل.
وفي زمن كورونا وانهيارنا الاقتصادي والمالي حريٌ بنا أن نجتمع على ما فيه خير للبلاد والعباد وليس إلقاء التهم جزافاً على بعضنا البعض، كما حدث في الأيام القليلة الماضية من رجال الدين والسياسة، وكأن المواطن في ترف عيش رغيد يمكنه من مراقبة مثل تلك المماحكات في الزواريب السياسية الضيقة العفنة وكلٌ يسبق الآخر لانتزاع موقف أو ورقة سياسية من هنا وهناك.