لعبة القدر وحكايتي مع الراحل نجيب زهر(ناجي أمهز)
بقلم ناجي امهز
هناك اشياء لا تفسير ولا تعليل لها، لكنك تلتمسها من المخزون البشري بالتجارب والأقوال والامثال، فالمكتوب ليس منه مهروب، وبالفعل كلنا تقريبا هربنا من افكار كانت تطاردنا فوقعنا بها لأنها الاقدار، ولا نعلم ان كنا نحن رسمناها لأنفسنا، او هي كانت موجودة بداخلنا كالبوصلة البيولوجية تأخذنا حيث القدر وضع مفاصل ومفارق، وحتى الارزاق مازالت مرتبطة بمعادلة خفية تحاكي الالغاز.
جميعنا عملنا بجد ونشاط او اقله ما استطعنا ان نقوم به بإمكاناتنا، لكن بالختام الغالبية فشلت بتحقيق الثروة وقلائل نجحوا، ومنهم لم يكن يعمل شيئا لكنه استيقظ ذات صباح على ارث لم يكن يتوقعه، وكان هذا الرزق هو الذي كان يبحث عن هذا الشخص ليجده.
ابان الحرب الاهلية في لبنان، وبما ان والدي كان مع الكتلة الوطنية، وبسبب ما كان يجري على الساحة المسيحية، حاول حزب مسيحي ان يعتقل والدي من داخل محطة للمحروقات كان يعمل بها، لكنه نجا بفضل شخص من ال شحيمي (كاتب) قام بإخراجه من جبيل نحو الشمال، وبعدها تبعناه الى المال.
في عام 1987 توفيت والدتي جراء حادث، وبما ان والدي كان يعمل أحدى دول الخليج، بقينا لوحدنا بالشمال، لا اهل ولا اقارب، وكنت اكبر اخوتي الاطفال بسنوات، ما اضطررنا للعودة الى جبيل، كي نعيش بكنف جدتي رحمها الله.
ومن مفارقات القدر انه حتى من عاش على راسي كان يحتاج الى معجزة. ذات يوم حلمت امي بالقديسة برناديت وانها اخبرتها بانها ستحمل بفتاة وتعيش ان اسمتها برناديت، فذهبت الى البطريرك صفير وكان مطرانا لجبيل حينها او يتواجد فيها، فأخبرته القصة، وقال لها ان نذر برناديت علي، وبالفعل وبعد 7 وفيات على راسي ولدت برناديت في جبيل.
وبعد عودتنا الى جبيل، التحقت عام 1988 بالحالة العونية في قصر الشعب، وكنت اجيد فن الخط، فكنت اخط اليافطات وارتب الشعارات، وذاعت شهرتي بهذا العمل حتى مسعود الاشقر (بوسي) كان ياتي من الاشرفية لاكتب له الكثير من العبارات على اليافطات.
وبعد 13 تشرين1990، كنت من اواخر من غادر المنصورية بلباس عامل اسمنت، حيث كنا انصارا، نساعد الجيش بالطعام والاعمال اللوجستية والمكتبية، كالطباعة على الالة الكاتبة، وقد ساعدتني هويتي اني من الطائفة الشيعية بالمرور على الحواجز السورية وحلفائها، من جسر الباشا وصولا حتى مار مخايل حيث كنت اتبع صوت الاذان لأني لم اكن على معرفة بطرقات بيروت، وبما اني لست قادرا على العودة الى جبيل خوفا ان تعتقلني القوات اللبنانية، اضطررت للعودة الى الشمال، ، حيث كان العونيون مطاردين وملاحقين من كل القوى اللبنانية وغير اللبنانية، فكان الجيش السوري، والدولة الرسمية اللبنانية تطاردهم، والقوات اللبنانية تطاردهم، والاحزاب اللبنانية من تقدمي وقومي وامل وبعث وفرسان الحمر، وحتى الامم المتحدة لم تقف انسانيا مع العونية،
وبعد ان عدت الى القرية في الشمال “اشتغلت” باي شيء في القرية كي لا اخرج منها، وكنت وحيدا، حيث بقي اخوتي الصغار عند جدتي في جبيل، وقد عشت احلك واصعب حياة يمكن لكائن حي ان يعيشها، ثم انتقلت للعمل في دار الفاروق للطباعة والنشر، كما قلت لكم كانت مهاراتي كبيرة للغاية بالرسم والخط، وقد تكلف الاستاذ صاحب الدار بتعليمي على الكومبيوتر.
مع نهاية عام 1991 التقيت بالصدفة مع طلال خزعل وهذا الاسم لاول مرة اذكره، وهو كان يتعاطف مع العونيين، وكان لديه محل صغير في ساحة الكورة(ساحة النجمة قرب التل في طرابلس) وكان يتردد عليه الكثير من العونيين من عكار وايضا بعض الطرابلسيين الذين كانوا ينتموا الى الحالة العونية، وقررنا استعادة نشاطنا العوني، وغالبية ما كان كتب في تلك الحقبة، على الجدران في الزاهرية وغالبية الشوارع المحيطة بها (عون راجع) كنت انا اكتبه، وكي نستطيع ان نصور ونوزع بعض مناشير العونية افتتح طلال خزعل، مكتبة اسماها كوبي طلال، وبعد كتابة “عون راجع” على جدران حي الامريكان، اصبحت اللقاءات والاجتماعات شبه مستحيلة، ما اضطرني للعودة الى العيرونية وان لا اغادرها، وعادت الامور تضيق بالخناق فلا يوجد امامي الا ان اعيش على ما تنبته الارض، او ما يتوفر من بعض الاعمال حيث كنت اخط على بعض ابواب المحلات بدل ايجار زهيد، وكان الصمت رفيقي دائما، وذات يوم تدخل القدر، حيث شاهدني اخط على احد أبواب المحلات، شخص من زغرتا لديه محمصة قهوة على ما اذكر اسمه حميد او بن حميد، فطلب مني ان اصمم له شعارا وان اخط له على مؤسسته، واخبرته اني ابحث عن عمل، فقال لي اصعد معي وذهبنا الى زغرتا الى شخص من ال كعوي، وقال له شغل هالشب معك واكرمه، وبالفعل عملت مع الاستاذ سمير كعوي وهو كان بغاية الاخلاق والكرم واللطف والظرف والمرح.
وتغيرت حياتي نحو الافضل، وكنت اقوم باقتطاع بعض المال وارسله الى اخوتي في جبيل، ولكن هذا الحال لم يستمر طويلا، وايضا تدخل القدر، حتى طرق بابي ليلا شخص من حركة التوحيد الاسلامي، يخبرني بان السوريين قادمون لاعتقالي، وقد سمع هذا الحديث من شخص كان موجودا داخل مركز على مفرق الفوار، وقال لي هناك سيارة مرسيدس تنتظرك امام دكانة الشيخ اسماعيل، وبالفعل وانا خارج مرت بقربي ثلاث سيارات عسكرية سورية، وصلت الى سيارة المرسيدس التي اوصلتني هذه السيارة الى منطقة التل، ومن هناك توجهت نحو بيروت، ولم اشأ ان ارعب اخوتي الصغار وعائلتي علي، فهم لا يعرفون شيئا بالسياسة، وقد وصلت ليلا الى منطقة حي الابيض حيث كانت تسكن خالتي، وبسبب الوقت المتأخر لم اعرف اين منزل خالتي، فقضيت ليلتي جالسا فوق خزان للمياه ، وفي اليوم التالي ذهبت الى شقيقة والدتي وقضيت اسبوعا هناك قبل ان اتوجه الى فردان لاسكن مع خالي الذي هو رفيقي وصديقي، وبعد ان استقريت في بيروت وبدات انتج بعض المصاريف، كنت اتوجه الى منطقة جديدة المتن حيث كنا نلتقي ببعضنا كعونيين، وفي تلك الاثناء انتشرت ظاهرة عرفت بالزمور العوني، وقد ابتدعها شخص من ال ابو جودة.
وايضا تدخل القدر ذات يوم عندما كنت استعد لركوب الحافلة من اول شارع الحمراء الى فردان، حيث اغلق احد الركاب الباب على يدي التي اصيبت برضوض، والذي اغلق الباب اصر ان يأخذني الى مستشفى الجامعة الامريكية حيث كان يعمل هناك ممرضا، وهو من عائلة ابو دياب من الجاهلية، وهو اول مرة يركب الحافلة، كون سيارته بالصيانة على الكولا، وبعد ان اطمأن انه لا يوجد اي كسر، طلب مني ان ازوره بعد اسبوع، حيث جلسنا في مطعم مستشفى الجامعة، وعندما سألني عن عملي قلت له اني اساعد خالي، فقال لي ان لديه مصبغة خلف سبينس قد استأجرها، وهو يعمل بها بعد الدوام، وكانت هذه المصبغة تقع في نفس المبنى الذي يقطنه السيد توفيق سلطان، كما انها ليست بعيدة عن منزل رائد الصحافة الاستاذ محمد امين دوغان الذي تعرفت عليه، وايضا مقابل المصبغة كان هناك رجل الاعمال الاستاذ نجيب زهر.
والذي يتابع مقالاتي وحتى الرفاق العونيين القدماء، كانوا دائما يسالوني من الذي انقذك من البوريفاج، وبالفعل انا نشرت اكثر من عشرين مقالا حول نضالي العوني وكنت دائما اذكر قصة اعتقالي بالبوريفاج، وان هناك رجل اعمال انقذني.
وايضا من لعبة القدر، ان ابو دياب صاحب المصبغة، كان يحرص ان يرسلني لإيصال ملابس الاستاذ نجيب زهر، وبدوره الاستاذ نجيب زهر كان لماحا ذكيا، فكان يمازحني قائلا، شكلك ملوكي والملك لو لبس خيش بضل ملك، فكنت اضحك قائلا الله يساعدني، ولكن احيانا كثيرة كنت ارسل بعض الاشارات التي كان يلتقطها، وللأمانة حاول مرات عديدة ان يساعدني وكنت ارفض، حتى انه عرض ان يشتري لي المصبغة قائلا شو رايك نكون شراكة، فكنت اضحك.
وذات يوم اغلقت المصبغة، وتوجهت الى الرملة البيضاء لاشرب فنجان قهوة اسبرسو من الفانات التي كانت تصطف على الكورنيش، وبينما انا ارتشف قهوتي جلس بقربي شاب لبناني واخذ يحدثني، اين تعمل ومن اين وبسياق الحديث اخبرته اني من بلاد جبيل واسمي ناجي امهز، فما كان منه الا ان ضربني بشيء اعتقد انه كعب مسدس لاستيقظ وانا في مركز الاستخبارات السورية (البوريفاج).
مر اسبوع في ذاك المعتقل، اسبوع لا توصف ايامه، وذات يوم فتح باب الزنزانة، لأجد امامي ضابط سوري اخرجني الى غرفة يجلس فيها ثلاثة رجال، ومن كثرة الضرب كنت اعاني من دوخة، فعرفت فقط من الوجوه وبعد تركيز وجه الاستاذ نجيب زهر، واعتقدت احدهم انه عمي حسين رحمه الله، فكان هذا الرجل يشبهه تماما، وقف هذا الرجل وكان عريضا قصير القامة وجهه كبير شعره خفيف وله شوارب، اجلسني قرب المحقق، وسالني انت من اين فقلت له من جبيل، فصرخ بي قائلا انت من البقاع وقال للمحقق اكتب انه من البقاع، وتقدم مني نجيب زهر ممسكا بيدي، واخرجني برفقة الضابط الكبير من البوريفاج، واوصلتني سيارة الى قرب مندرين(فردان)، وبعدها توجهت الى حيث يسكن خالي.
وبقي ابو دياب يهتم بأدويتي، واخبرني القصة انه بعد غيابي بيومين ذهب ليسال عني فقال له خالي ربما عدت الى جبيل، وان نجيب زهر سأله عني، وهو الذي بحث وعلم اني موقوف في البوريفاج.
وبعد ان اصبحت بصحة جيدة توجهت الى الاستاذ نجيب زهر لأشكره، فأشار علي ان اغادر المنطقة وتمنى علي ان لا اخبر احد بما فعله، وتكرم علي، ورافقني الى الباب وقبل ان ادخل المصعد، رفع يده مبتسما وقال الم اخبرك انك ملك، وطلب من سائقه ان يوصلني الى الضابط السوري الكبير كي اشكره، والذي كان مركزه اخر الشارع الذي تتواجد به المصبغة، وهناك استقبلني الضابط وحدثني كثيرا بالسياسة واهداني كتاب اسمه سيرة مناضل عن الرئيس حافظ الاسد، وقال لي حرفيا، نحن نحترمكم انتم العونيين، لكن السياسة مختلفة كثيرا والايام ستكشف لكم الكثير.
وبالفعل كبرنا وفهمنا الكثير بالسياسة، وشاهدنا بأم العين والجسد الحي، كيف تضيع التضحيات، فالثورة يفجرها مجانين بعشق أوطانهم فيموت فيها الشرفاء ويستفيد منها الجبناء.
لذلك لا تستغربوا عندما اكتب انا او غيري عذرا حافظ الاسد، فما يحصل اليوم في وطننا، يكشف الكثير، هو تحذير كي لا يقع غيرنا بما وقعنا فيه، وخاصة ان التجربة العونية كانت اكثر التجارب وطنية في تاريخ لبنان، واليوم اين اصبحت.
ويوما ما سأكتب كل شيء وسيكون اعظم كتاب او ربما سيناريو لمسلسل لبناني يجسد الواقع بمختلف توجهاته، فانا الذي عاصرت النخبة الحاكمة وعايشت الحروب، ورجال الدولة.
اما ما اكتبه الان هو رد جزء صغير من الجميل للمرحوم الكبير نجيب زهر، كي يكون شاهدا الى الابد على وطنية حقيقية، وكرمه وحسن خلقه ورفعة مكانه، وكثرة خيره، فهو كان ينفق ويعلم ويربي ويطبب ويجبر الخواطر، دون ان يسمع احد عن لسانه كلمة واحدة، رحمة الله عليه.