لبنان يدعى… دير الأحمر (نبيه البرجي)
الحوارنيوز – صحافة
تحت هذا العنوان كتب نبيه البرجي في الديار يقول:
ذات عشاء مع سمير حبشي في البلدة. كم يشبه هؤلاء الناس الصخور التي يتلألأ فيها الماء العذب، وتستضيف الليلك والزنبق. كم يشبهون منازلهم، وحقولهم؟ كم يشبهون المدى…؟
الآن النائب أنطوان حبشي حين يتكلم. ألا يليق به لقب “صاحب الفخامة”، بالشخصية الراقية، والمرهفة، حين يفتح صدره، وأبواب منزله (أجل أبواب منزله) لأبناء منطقته الذين لم يعد لهم غطاء سوى السماء (وأي سماء الآن؟)، كضحايا لحرب لا نظير لجنونها في التاريخ، وحيث يفترض أن تولول الأبواب، وأن تصرخ المدن، تبعاً للنص التوراتي. يقولون… النص الالهي!
قلت في السهرة التي أعقبت العشاء، وكانت هناك راهبة بين الحضور، “المسيحي في الانجيل لا في التوراة”. هكذا تعلمت من القداس الصباحي، في الكلية الشرقية في زحلة، وهكذا رأيت لدى الكاهن الفذ تيار دو شاردان. أيضاً في فيلم باولو بازوليني “الانجيل بحسب متى”.
في هذه السياق، نقل الي صديق لبناني، وهو مهندس يعمل في فرنسا، حديثاً جرى بينه وبين شخص يهودي. قال انه كان يتكلم عن مفهوم الخلاص في المسيحية، حين قاطعه ذلك الشخص قائلاً “هذا لا يمكن أن يكون المسيح الذي ننتظره، بالدعوة الى الصفح، والى المحبة، والى الاغتسال من الخطايا، وكذلك وضع الآخرين في قلوبنا. نريد المسيح الذي تتلطخ بداه بدم الأباطرة، والجنود، الرومان”. ولكن ألم يأت المسيح الى هذه الدنيا لوقف ثقافة (أو ايديولوجيا) الدم، ولاغلاق الكهوف، لترى البشرية الله بأحاسيسها، لا بأظافرها، كما يتصرف القادة الاسرائيليون. تماماً مثلما قال باروخ سبينوزا “انهم يغرزون السكين في خاصرة… الله”.
عام 1988 طلب مني المسؤول الاعلامي في “القوات اللبنانية” الاستعداد لمناظرة مع الدكتورسمير جعجع حول الفديرالية التي كان يدعو اليها للخروج من مسلسل الأزمات والصراعات التي تعقبها، عادة، تسويات هشة، وآنية، أو ملتبسة، ولا تلبث أن تنفجر أمام أي هزة، أو أمام أي مفترق، في بلد تتقاطع فيه الرياح من كل حدب وصوب.
آنذاك عدت الى غالبية النظريات، والتجارب، ناهيك عن الدساتير، في البلدان الفيدرالية. أيضاً بحثت عن التشكيل السوسيوثقافي، والسوسيوتاريخي، لتلك البلدان، لمواجهة قائد “القوات اللبنانية” الذي كنت، كصحافي، أزوره باستمرار، كما دعاني لزيارة منزله، وحيث تتضح اللمسات السحرية للسيدة ستريدا في كل تفاصيله. لكن الحرب التي اندلعت آنذاك حالت دون حدوث المناظرة.
أهم من كل تلك التعقيدات السياسية، والدستورية، والتاريخية، والسوسيولوجية، كنت سأركز على تجربتين عشتهما في دير الأحمر، ومع عينة من أهالي دير الأحمر. حضرت حفل زفاف صديق في البلدة. الدبكة نفسها، الرقصات، الأهازيج، التي لدى الجوار. الوجوه أيضاً تتشابه. أي فوارق ثقافية تفكيكية تلك مع كلام جبران خليل جبران، وقد لامسنا وجه القمر مع القبيلة الرحبانية. ماذا عن وديع الصافي وصباح حيث “الأوف” تهز الدهر.
التجربة الثانية أنني كنت داخلاً الى فندق الشيراتون في دمشق، حين رأيت مجموعة من الرجال، بالقامات الصلبة (قامات رجالنا)، وهم يعتمرون، بأناقة لافتة، الكوفية والعقال، ويرتدون الشراويل الفضفاضة (كما كان لباس جدي). علمت أنهم من دير الاحمر، ومع معرفتنا ما مكانة الأزياء في التراث الثقافي، والتاريخي، للشعوب.
في مناسبة سياسية، منذ عقود، صادف جلوسي الى جانب سفير المغرب في لبنان. شخصية مرهفة، ومثقفة، وأنيقة، في آن. حدثني عن الشخصية المركبة في بلاده. قال “هكذا أشعر أنني مغربي، عربي، أفريقي، فرنسي”، حتى اذا ما قرأت أمين معلوف حول “الهويات القاتلة”، وعالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو حول “فلسفة الهوية” ازددت اقتناعاً بنظرية “الانسان المركب”، ما دمنا في زمن الهويات المركبة، والثقافات المركبة، والديانات المركبة، لأشعر، كلبناني، يعيش بين 18 طائفة، انني أنتمي الى كل تلك الطوائف لأنني انتمي الى كل هؤلاء الناس…
هنا لبنان الذي يدعى دير الأحمر. وهؤلاء هم أهلها، الرجال الرجال، والنساء اللواتي يشبهن الورود، ويشبهن الينابيع. وهذا هو أنطوان حبشي، بالعقل المشع، وبالقلب المشع، وهذا هو سمير حبشي بالموهبة التي تضاهي مواهب كبار المخرجين العالميين.
لن ننسى ما يفعله المسيحيون، والسنّة، والدروز، للأهل الذين دمرت منازلهم، وأحلامهم، ولنكتشف أن هذا هو لبنان، وطننا، وملاذنا، وقضيتنا…