لبنان والعداء المستحكم مع الذاكرة (محمد عبد الله فضل الله)
محمد عبدالله فضل الله
العقل هو تعبير أعلى عن كرامة بشرية، إلاّ في لبنان فإن التلاعب بالعقول على أوّجه في بلد التناقضات وتركيب الطرابيش وكأن السياسة فن استباحة كل شيء تخفيه البلطجة من الجميع ضد الجميع، والخاسر هو الناس البسطاء الذين انحدرت معيشتهم إلى القعر بلا سند ولا معين.
لا مجال بعد الآن للتلطي، فإما أن تكون مع الحق جاهرًا به وإما تكون مع جبهة الظلم. هذا ما تعلمناه وهذا ما يلقيه الوعاظ ورجال السياسة والدين على البسطاء ليل نهار.
ما نفتقده هو التنبه والوعي إلى كثير من العوائق المصطنعة التي أريد لها أن تكبل عيشنا وتجعلنا مرتهنين لألعبان السياسيين والفاسدين وسرّاق الوعي والضمائر، إذ قلّما نجد من يتجرأ على مراجعة جدية لخطابه الحزبي وسياساته، وفق ما يناسب من مقتضيات الحكمة لا وفق مقتضيات الحسابات الظرفية والتحالفات المتشابكة، حتى أضحى الواقع مرتبكًا ومحكومًا إلى لغة مستعرة مذهبيًا وطائفيًا؛ لغة تخديرية لروح الناس تعادي أي لغة أخرى تحدّق خارج التعصب البغيض.
هذه الحسابات والتحالفات الضيقة لا تخدم حقيقة سوى مصالح الدول المؤثرة التي تعيد وقت تشاء إعادة صياغة نفوذها وخريطة مصالحها، فالإشتباك السياسي إقليميًا ودوليًا عادة ما ينتهي إلى جلوس حول قراءة ما تم جنيه من حسابات البيدر، فإيران المقتدرة تريد تثبيت شيء ما لها ولحلفائها على المستوى السياسي، والأميركيون لا يريدون لهذه القوة أن تُترجم في لبنان خصوصا لجهة خدمة بيئة المقاومة وبنيتها وهم يفكرون في كيفية محاصرتها وخنقها وصولًا إلى قطع الهواء عنها، ناهيك عن العين المفتوحة على النفط والغاز مستقبلًا ،ولكن يبقى السؤال الأكبر هو أن الصيغة اللبنانية السياسية القائمة (اتفاق الطائف) إلى أي مدى ستتحمل هذا الشد في الحبال بين اللاعبين الأميركي (الغربي) والإيراني، وهل هذه الصيغة اليوم متينة بما فيه الكفاية كي تتحمل كل ذلك؟
الناس للأسف سرعان ما تنسى آلامها وكأن لها عداء مستحكم مع الذاكرة فلا يمكن والحال هذه إلا الإنتفاض على الذات وتوجيه بوصلة الذاكرة جيدًا والتعود على المحاسبة والنقد البنّاء وصولًا إلى الإختيار التمثيلي الصحيح من هنا كل هذا الحديث عن أميركا ـ ومن يدور في فلكها ـ عن ضرورة عدم إيصال لبنان إلى الإنهيار الشامل، لكن مع عدم السماح له بالتعافي الشامل إلا بما يخدم ما يتم رسمه للمنطقة وتموضعات الأطراف فيها. لذا المطلوب حماية التماسك والأمن والسلم الأهلي المهدد قدر المستطاع، فلم يعد يجدي الإنتظار لحصول تطورات إقليمية إذ ستكون فاتورته تدميرية على البلد. الحذر من الفتنة واجب ولا بد أن يكون الجميع كابن اللبون “كن في الفتنة كابن اللبون لاَ ظَهْرٌ فَيُرْكَبَ، وَلاَ ضَرْعٌ فَيُحْلَبَ”. حيث هنا فقط تتجلى الحنكة والحكمة السياسية.
لا مجال للتلاعب بالعقول، فلماذا حرق المراحل وهل علينا أن نربح إنتخابات نيابية أو مقاعد نيابية ولو كان الثمن خسارة بلدنا؟ كيف سيخاطب السياسيون ناسهم وهم يتجاهلون حرمانهم وجوعهم، أم أنهم يضمنون نتائج الإنتخابات النيابية على اعتبار أنهم يعرفون ما زرعوا في وجدانهم من مشاعر طائفية وحزبية ضيقة وعصبيات هوجاء يحركونها ساعة يشاؤون!
كما أن هذه الإنتخابات، إن حصلت، وهناك من يراهن عليها مدخلًا للتغيير، لكن من يضمن التغيير والناس لا تجد أمامها سوى هذه الطبقة السياسية والحزبية ذاتها ولا تتعرف تاليًا على من لديهم المؤهلات أو ما يسمون بالمدنيين والمستقلين، فهم لا يؤمنون إلى الآن بأن هناك من هو مستقل أو وسطي يملك برنامجًا سياسيًا واضحًا في بلد قائم على التناقضات.
في خضم كل ذلك، فإن الناس للأسف سرعان ما تنسى آلامها وكأن لها عداء مستحكم مع الذاكرة، فلا يمكن والحال هذه إلا الإنتفاض على الذات وتوجيه بوصلة الذاكرة جيدًا والتعود على المحاسبة والنقد البنّاء وصولًا إلى الإختيار التمثيلي الصحيح.. وغير ذلك لن ينفعنا وسنبقى في حلقة مفرغة.