رأي

لبنان بين معركة الدولة ومعركة البقاء (أسامة مشيمش) 

 

بقلم د. أسامة توفيق مشيمش – الحوارنيوز

منذ انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، دخل لبنان في مسار سياسي هش، تحكمه توازنات طائفية دقيقة صيغت في اتفاق الطائف، الذي جرد رئاسة الجمهورية من صلاحياتها التاريخية، ونقل السلطة التنفيذية إلى مجلس الوزراء مجتمعًا، مراعيًا في كل قراراته ما سُمي بـ”الميثاقية الوطنية”؛ أي احترام تمثيل كل الطوائف وعدم تهميش أي منها.

 

هذا الاتفاق، الذي رأى فيه البعض بداية لبناء دولة، اعتبره آخرون إعادة توزيع للحصص الطائفية أكثر منه مشروعًا لبناء وطن جامع. وقد عبّر النائب السابق نجاح واكيم عن عمق التحول السياسي وقتها بجملته الشهيرة: “حلقنا للموارنة”، في إشارة إلى تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية الماروني. واليوم، بعد أكثر من ثلاثة عقود، لا تزال البلاد تدور في فلك الانقسامات الطائفية، لكن النقاش لم يعد فقط حول الصلاحيات، بل تعداه إلى الوجود، والكرامة، والحماية.

 

سلاح المقاومة: شرعية من الدم والتاريخ

 

في قلب هذا النقاش يقف “سلاح المقاومة”، أي سلاح حز. ب الله، الذي تحوّل من مجرد جناح عسكري إلى أحد أعمدة المعادلة الوطنية. وبعيدًا عن محاولات البعض لوصف هذا السلاح كـ”مشكلة لبنانية داخلية”، فإن الواقع، الذي لا يمكن تجاهله، يقول إن هذا السلاح هو ما منع إسرائيل من فرض شروطها على لبنان، وهو ما حمى السيادة، وحافظ على الكرامة الوطنية في وجه أطماع لا تزال قائمة حتى اللحظة.

 

المقاومة لم تكن مشروعًا مذهبيًا، بل كانت ردًا على احتلال، وعلى تقاعس دولي، وعلى انهيار الدولة في لحظة تاريخية. وحين كانت بيروت تقصف، والجنوب يرزح تحت الاحتلال، لم يكن هناك من يدافع عن الأرض سوى أبناء هذه المقاومة. هؤلاء الذين قدموا أرواحهم لا ليبنوا مجدًا فئويًا، بل ليبقوا لبنان بلدًا لا يُهان.

 

المقاومة والميثاق الوطني: حماية لا تهديد

 

من هنا، فإن وصف سلاح المقاومة بأنه “تهديد للسلم الأهلي” فيه الكثير من التجنّي. فالسلم الأهلي ليس فقط غياب الحرب، بل هو أيضًا الشعور بالأمان، وبالانتماء، وبأنك لست مستهدفًا في هويتك، أو تاريخك، أو وجودك. وسلاح المقاومة، بالنسبة للطائفة الشيعية التي قدمت آلاف الشهداء، هو الضمانة الوحيدة المتبقية في ظل واقع إقليمي تحكمه الأنظمة الدكتاتورية والمشاريع التفتيتية.

 

هذا السلاح لم يكن يومًا موجهًا إلى الداخل، ولا ضد الدولة، بل كان وسيبقى، وفق قادته، جزءًا من منظومة الحماية الوطنية، ريثما تُبنى دولة قوية، عادلة، قادرة على الدفاع عن أرضها وشعبها، دون الحاجة إلى قوى رديفة. ولكن حتى ذلك اليوم، لا يمكن نزع هذا السلاح دون تقديم بديل يساوي في قوته، ووطنيته، وشجاعته.

 

المقاومة رافعة حضور لا مشروع هيمنة

 

ليس صحيحًا أن سلاح المقاومة يستخدم للهيمنة أو لفرض مشروع مذهبي. والدليل أن هذه المقاومة قدّمت نماذج في التعايش الوطني، وشاركت في الحكومات، واحترمت التوازنات، ولم تفرض أجندتها على شركائها في الوطن. بل إن سلوكها السياسي في مراحل مفصلية من تاريخ لبنان كان أكثر عقلانية من كثير من القوى التي تدعي “الوسطية” أو “الاعتدال”.

 

بلغة أكثر وضوحًا: من قدّم الشهداء دفاعًا عن لبنان لا يمكن أن يكون متآمرًا عليه. ومن حرر الأرض بدمه لا يمكن أن يقبل بأن يُعامل كمتهم دائم أو كخطر يجب تحييده.

 

نحو دولة عادلة لكل مكوناتها

 

لكن، في المقابل، لا يمكن للمقاومة أن تبقى وحيدة في الميدان. المطلوب ليس فقط الاعتراف بدورها، بل مشاركتها في صياغة مشروع الدولة. دولة تُبنى على العدالة الاجتماعية، والمساواة السياسية، والتوزيع العادل للفرص. لا دولة الطائفية المقنعة أو المحاصصة المُقنّعة، ولا دولة السلاح المعزول، بل الدولة التي تحترم تضحيات من دافعوا عنها، وتحتضنهم في مؤسساتها لا على هامشها.

 

المقاومة ليست بديلًا عن الدولة، لكنها كانت، ولا تزال، صمام أمانها. ومن يريد لبنان القوي، السيد، الحر، فعليه أن يُنصف هذه المقاومة، لا أن يُشيطنها. لأن التاريخ لن يرحم من يساوي بين من ضحى ومن تآمر، ولا من يضع السلاح المقاوم في كفة واحدة مع سلاح الفوضى.

 

لبنان باقٍ، ليس لأنه محكوم بتوازنات طائفية، بل لأنه محمي بإرادات صادقة، ومقاومة حقيقية، وشعب أثبت أنه حين يُطلب منه الدفاع، لا يتأخر.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى