لبنان بين “دستور الطائف ودستور الإيمان”(نسيم الخوري)
بقلم الدكتور نسيم الخوري*
تحت عنوان “الطائف 33، الميثاق الوطني اللبناني”، إنعقد في قصر الأونسكو في بيروت (السبت 5/11/2020) بدعوةٍ من السفير السعودي وليد البخاري، مؤتمر فائق التنظيم، تذكيراً بعنوانه ورقمه المميز بعد 33 سنة على إهماله وفقدان الليونة في المواقف السياسية الطائفية الحادة في لبنان التي تهدد الإستقرار.
حضر المؤتمر الأخضر الإبراهيمي ومعظم الشخصيات السياسية والفكرية في زمنٍ يبدو اتفاق الطائف العنوان الأبرز في لبنان ،وقد تلقيت الدعوة شاكراً لكنني اعتذرت لأنني على سفر،ولربّما جاءت الدعوة بعدما نشرت على التويتر كلاماً مهمّاً عن لسان الرئيس الدكتور سليم الحص في سلسلة مقالاتي عن الطائف، مفاده أنّ” دستور الطائف هو مثل دستور الإيمان تقبله أو ترفضه كلّه” ،وراق هذا الكلام لسعادة السفير الذي نقله على موقعه.
الحقيقة أن شعار المؤتمر لفتني إذ كان: “إبرام وثيقة الوفاق الوطني”. شئت منقّباً عن فعل “أبرم” الذي يعني: “ألحّ قاصداً إِفحامه أي إِسكاته في الجِدَال”. لكن لنعترف بأنّ لمؤتمر الإبرام أهميته القصوى في مفصل تتشابك فيه المواقف المطالبة بتعديلات جذرية في دستور الطائف وهذا حقّها بالمطلق، لأنّ الدساتير ليست مقدّسة، لكن الطريق وعر ومعقّد بل ملغّم بالفراغ وسيرة الذين نحروا الدستور لألف سبب وسبب يعرفه العوام في لبنان الذي أكله وأكل شعبه الفساد. الوضع معقّد ولن يُعبّد الطريق بسهولة لأنّ الكلام الخطير المستور والكثير المنثور باحتساب أعداد اللبنانيين طائفياً وتشظيات الموارنة يختلط بأصوات تدعو للتوافقية لا إلى العددية قطعاً ولا إلى ما لا يعلمه سوى الله والعارفون بالأمور.
لماذا حصل هذا كلّه مع الطائف؟
لأن مناقشات الطائف ووثائقه ملفوفة أبداً في ادراج الرئيس حسين الحسيني يحجبها لأنّها”توحي بالكوارث والمذابح” كما يردد. ولأننا نتطلّع الى بلدنا بعد ثلاثة عقود فنجده مغايراً وناسياً حتّى لديباجة دستوره وفيه نذكّر الجميع:
“لا فرز للشعب على أساس أي انتماء كان ولا تجزئة ولا تقسيم ولا توطين ولا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك”.
وثيقة الطائف نصوص مهملة ولم تطبق أو تتطور مذ عادوا من الطائف إلى لبنان ،ومعظمهم كانوا في الأونيسكو أمس سعادة السفير. رفعه الحسيني لوحة فنية في منزله ملاصقة لصورته التذكارية مع البابا بولس الثاني الذي اعتبره العالم دمغة التغيير الجلية في التاريخ المعاصر.
ولأنّ رفيق الحريري انخرط مع اللجنة الثلاثية العليا في الطائف، وكان همّه العمراني مسكوناً ب”الداون تاون” المعروفة أساساً ب” ساحة الشهداء” بعدما دمّرتها الحروب الطائفية العنيفة، وأعيد بناؤها تحت شعار “المدينة العريقة للمستقبل” وقد نُقشت مقدمة الدستور قبالة مبنى البرلمان، لكن وقائع لبنان عبر سياسييه بقي يخفي أسراراً كثيرة مجهولة ومُقلقة، من الرفض للطائف الى الإجتهادات والجهر الوطني والمستورد الذي عطّل عجلات الدستور ليصير لبنان دمية يتقاذفها من خرجوا من الحرب إلى الحكم.
ملاحظات تسهّل عبورنا في الوعر الدستوري:
1- الطائف، بالرغم من رصيده الإقليمي والدولي، نص توافقي. ليست المشكلة بالنصوص بل بالنفوس الأبدية. تقتضي التوافقية التنازل النهائي والرضائي عن المطالب والحقوق دون أي تعويض لإعادة تشكيل السلطات مغانم ومكاسب. التعويضات كثيرة ومحصورة. لهذا قويت الملاحظات الرافضة لإتفاق الطائف المشكول بالقرار الدولي 1559. تعمّقت مستويات التفسخ الوطني بين المعارضين والموالين والمنبريين والمقاطعين والمستقلين والمسايرين والمسجونين والمبعدين قسراً ،وازدادت قبل وبعد عودة ميشال عون من فرنسا بعد 15 سنة وخروج سمير جعجع من السجن بعد 11 سنة. الجروح لم تسودّ الدماء فيها. مختصر الطائف محصور بالإنتقال من السلاح الى السلم كما عبّر الأخضر الإبراهيمي لكنّني أُضيف صفة السلام الدائم الإهتزاز منذ 33 سنة.
هكذا تتوزّع الأطراف صخرية بين من يعارض الدستور مطالباً بالسلطات والصلاحيات المفقودة والمُباعة عدّاً ونقداً أو مراكز في الدولة دائمة أو يعارض السلطات كلها مطالباً بالوطن العلماني ليدبّ مناخ الإستحالة بتطبيق الوفاق الوطني حيث الإحباط والإنكفاء والفراغ مجدداً مقابل التفرد والفجور والإلغاء والإستقواء والإستعداء إن لم نقل الإستجداء العام إلى ما طالت الأيدي الجشعة التي لا تشبع للظفر بالحصص والمناصب.
حمل الإتفاق كنص دائري مقفل مجموعة كبرى من القضايا الدستورية التي تحتاج الى تفسير تعميقاً للوفاق الفعلي، لكن الحواريات بقيت نوافذ مقفلة للإشتباكات الممنوعة اقليمياً ودولياً. لست أدري خلفيات الحوار الذي تيقّظ له الرئيس نبيه بري وألغاه ونتائج مؤتمر الإبرام السفير وليد البخاري ومفاعيله القادمة المنتظرة .
2- أرضى السلم المنبثق من الطائف جروح اللبنانيين لكن زعماء الطوائف والأحزاب فشلوا في الحكم لتجذّرهم حتى النخاع بممارساتهم التقليدية الطائفية والمناطقية الموروثة، وهذا ما جعل الشروخ العفنة بين الطوائف هي المقياس. صحيح أنّ الأجيال الجديدة رفضت بل صُدمت بنظراتها لسياسيين يتقاسمون الوطن المكسور والمهجور، لكنّ الأصح أن الوطن صار مؤقتاً نتركه بانتظار ظروف مستجدة يعود أطراف النزاع هم هم الى المطالب والطروحات نفسها وربّما الى الإقتتال.
3- حمل الطائف معضلة الصراعات وصدمات الإنتخابات البرلمانية المتتالية وآلية تأليف الحكومات المنسوخة نسخاً عن ماضٍ فاسد لم يراعِ حتى “القطعان” الطائفية اللبنانية لتطرح الأسئلة كلّ لحظة: من يمثل من؟ ومن انتخب من؟ ومن يتجرأ على اعتبار لبنان عقاره الخاص؟ وأي طبقة تلك تتحكم بالناس والمال والماضي والحاضر والمستقبل؟ يجب أن نبدأ بردم تلك الأخوّة بين كان وأصبح، أعني بين الماضي والمستقبل.
4- بدت “المرجعيات” المسيحية التقليدية محكومة بالضياع والتمزق وما زالت نقطة الضعف المتدهورة المعقدة. كان الموارنة مثلاً الرقم الصعب في الجمهوريات السابقة، لأن دولاً اقليمية وأوروبية استفادت منهم تحضيراً للمسألة الشرقية ومصالحها وأصبحوا ورقة خريفية متكسّرة حتّى مارونيّاً جاهزين للقتال، وآخر ما حصل مؤخّراً “صار الوقت” الذي لا يمكن اعتباره بسيطاً.
كانوا واجهة الغرب في لبنان والمنطقة ،لكن المنطقة كلّها صارت مهبط الغرب والشرق والشمال والجنوب، حافلةً بالمنجزات الحضارية الغربية المتعددة اللهجات والمعاني للكلمة!
يعيش المسيحيون الإرباك التاريخي والإرهاق الكياني عاجزين عن الإنخراط جذرياً أو استيعاب الجديد بعدما أضاعوا القديم وراحوا يتطلعون بحسرةٍ مبهورين بالمتغيرات الكبرى الحاصلة في العالم وفهمها وترجمتها عبر مواقف متجددة في السياسة تُعيد خرطهم هم هم أو أولادهم وأحفادهم في فصيلة إدارة الوطن فوقعوا في المستحيلات.
ثمة مشكلة مزمنة. فالدولة لم ولن تقم بعد، ويبدو المستقبل مثقلاً بالديون والتحولات ،وكأنّ ما نُفذ من الدستور قد نفّذ وما لم ينفذ قد يتمّ إنقاذه أو يسقط بانتظار نص معدل أو بانتظار دستور جديد وحروب جديدة ولبنانٍ جديد فقد لونه وطعمه ورائحته ودوره!
*عضو الهيئة العليا الإشراف على الإنتخابات.
كاتب لبناني وأستاذ في المعهد العالي للدكتوراه.