لبنان بين خطاب التحريض وصراع المشاريع الوطنية (أسامة مشيمش)

بقلم د. أسامة توفيق مشيمش – الحوارنيوز
يشهد لبنان في المرحلة الراهنة تصاعدًا غير مسبوق في الخطاب التحريضي الموجَّه نحو فئة لبنانية بعينها، لطالما اعتبرت نفسها في قلب المشروع الوطني المقاوم. فهذه الفئة، وعلى مدار عقود، قدمت تضحيات كبرى على مذبح الوطن، سعيًا لتحريره من الهيمنة الخارجية والاحتلال، ولبناء مشروع تحرر وطني بعيد عن الحسابات الفئوية أو المكاسب السياسية الضيقة.
ما يجري اليوم يطرح تساؤلات جدية حول طبيعة الخطاب السياسي والإعلامي الذي يُستخدم، وأهدافه الخفية أو المعلنة. فحين يُستبدل الحوار السياسي والنقاش الديمقراطي بلغة التخوين والتحريض والتشكيك في النوايا الوطنية، تُفتح الأبواب أمام انقسامات خطيرة قد تُضعف لبنان من الداخل وتجعله أكثر عرضةً للتدخلات الخارجية، وهو ما يشكل تهديدًا مباشرًا للسلم الأهلي ومقومات الوحدة الوطنية.
منذ نشأة الكيان اللبناني، ظل هذا الوطن ساحةً مفتوحة للتجاذبات الدولية، حيث تعاقبت الوصايات والنزاعات، وانقسم اللبنانيون في مواقفهم السياسية وفقًا لموازين القوى الإقليمية والدولية. غير أن مرحلة التحرير عام 2000 شكّلت محطة مفصلية، حين أثبتت المقا.ومة اللبنانية قدرتها على دحر الاحتلال الإسرائيلي من دون اتفاقات سياسية أو مفاوضات دولية. هذه المحطة لم تكن فقط إنجازًا عسكريًا، بل أعادت تعريف مفهوم السيادة الوطنية وربطته بقدرة الشعب على فرض خياراته بعيدًا عن الإملاءات الخارجية.
إلا أن هذا الإنجاز لم يلقَ إجماعًا داخليًا طويل الأمد، فسرعان ما برزت التباينات حول دور المقا.ومة وسلاحها، وطرحت مسألة “الاستراتيجية الدفاعية” كعنوان خلاف سياسي دائم. وفي هذا السياق، بدأت حملات تشويه منظمة تستهدف المقا.ومة وتاريخها ودورها المستقبلي، وبلغت ذروتها في السنوات الأخيرة، مدفوعة، بحسب العديد من التقارير والتحليلات، بتدخلات أجهزة استخباراتية دولية وإقليمية.
ووفقًا لمصادر أمنية ودبلوماسية متقاطعة، فإن ما يقارب 56 جهاز استخبارات دولي وإقليمي نشطوا، في مراحل متعددة، في مراقبة وتتبع نشاطات المقا.ومة اللبنانية، ضمن مسعى لإضعاف بنيتها وكسر إرادتها. ورغم كل هذا الضغط، فإن المقا.ومة نجحت، حتى الآن، في الحفاظ على تماسكها، وتطوير قدراتها، لا سيما في مجالات السلاح النوعي والاستراتيجي، الأمر الذي يشكّل مصدر قلق دائم للعدو الإسرائيلي وحلفائه الغربيين.
الحروب الأخيرة، وعلى رأسها تلك التي شهدها الجنوب اللبناني في السنوات الماضية، أظهرت فشل هذه الجهود في القضاء على المقا.ومة أو الحد من فاعليتها. بل على العكس، زادت من التفاف جزء كبير من اللبنانيين حول خيار المقا.ومة، رغم الانقسامات الحادة التي تعصف بالمشهد السياسي الداخلي.
لكن في المقابل، لا يمكن إنكار وجود شرائح لبنانية واسعة تُعبّر عن قلقها المشروع من استمرار انفراد المقا.ومة بقرار السلم والحرب، ومن انعكاسات ذلك على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي. هذا التباين في الرؤى لا يجب أن يتحول إلى تخوين متبادل أو اتهام بالعمالة، بل من المفترض أن يكون منطلقًا لحوار جدي حول كيفية حماية لبنان في ظل توازنات إقليمية معقدة، وحاجته لبناء منظومة دفاعية تُعبّر عن إجماع وطني.
إن حماية لبنان لا تتحقق فقط عبر امتلاك السلاح أو خوض المعارك، بل تتطلب أيضًا خطابًا سياسيًا جامعًا، يترفّع عن الحسابات الطائفية والمذهبية، ويضع المصلحة الوطنية فوق كل اعتبار. كما تتطلب دولة عادلة وقوية، قادرة على احتضان الجميع، وتأمين شروط الحياة الكريمة لشعبها، وضبط حدود التدخلات الخارجية.
إن ما يُقلق اليوم ليس فقط التهديد الخارجي، بل التهديد الداخلي المتمثل في تمزيق النسيج الاجتماعي اللبناني، وتشويه صورة فئات أساسية ساهمت في صون الهوية الوطنية. وإذا كان البعض يرى في سلاح المقا.ومة مصدرًا للقلق، فإن البعض الآخر يراه صمام أمان في وجه الأطماع الإسرائيلية والانهيارات الإقليمية المتتالية.
في النهاية، يبقى لبنان بحاجة إلى مقاربة جديدة، توازن بين متطلبات الأمن والسيادة، وبين ضرورة بناء عقد اجتماعي جديد، يُعيد تعريف مفهوم الدولة والمواطنة، ويكرّس فكرة أن لا أحد أكبر من الوطن، ولا أحد خارج محيطه.



