لبنان بين أزمة التكوين والواقع المستجد والقوى العمياء(علي يوسف)
كتب علي يوسف
لعل تشكيل الحكومة الحالية التي نالت الثقة يكشف في بنيتها وتمثيلها للقوى السياسية التي تتألف منها الازمة البنيوية للبنان ولنظامه السياسي.
كما تكشف خطة عملها وعملية التصويت على الثقة قبول القوى السياسية اللبنانية باستمرار هذه الأزمة التكوينية وعقلية استجداء استيراد الحلول للأزمات والقبول سلفاً بعجز تاريخي عن استخدام “العبقرية اللبنانية” التي يتم التغني بتصديرها وبدورها في الخارج من دون أي محاولة لرسم دور لها في التدخل.
والمشكلة الأكبر هي في الهروب من الاعتراف بالأزمة التكوينية والتركيز على نتائج هذه الأزمة وتحويل النتائج الى اسباب في عملية غش ونصب وتهريب فكري هي اخطر من عمليات سرقة الدولة وسرقة اموال وتعب ومدخرات وعمل الناس التي جرت وتجري في وضح النهار واستخدمت هذه المرة في إطار مؤامرة اجرامية لنشر الفوضى في لبنان.
ماذا يعني ذلك ؟؟
يعني ان كل ما يطرح في لبنان عن محاصصة ومشاريع محاربة الفساد ومكافحة التهريب والسلاح غير الشرعي والدولة ضمن الدولة والسلاح المتفلت وسيطرة فئات على مواقع واجندات لمصالح شخصية أو حزبية أو أو الخ……
كلها شعارات سخيفة تتناول نتائج الازمة وذات اهداف شعبوية تافهة وعمليات غش ونصب وتهريب فكري… وهي أما ناتجة عن عجز فكري أو عن غسل دماغ اعلامي أو عن هروب من طرح المشكلة البنيوية للنظام.
فالمحاصصة ليست اتهاماً بل هي في الحقيقة تعبير واقعي عن النظام الطائفي. فعندما يكون هناك حصص للطوائف يعني ذلك أن المحاصصة هي جزء أساسي من تركيب النظام وليست عملية مؤامرة بين أطراف السلطة وإن ظهرت بليونة احياناً وبفجاجة أحياناً أخرى.
كما أن الفساد بمعانيه كافة وبوسائله كافة لا يحتاج الى أكثر من اجراءات عادية إدارية أو قضائية في حال وجود دولة ذات بنية مؤسساتية وتقوم على المواطنة وليس على التوازنات والمصالح الطائفية المركبة عامودياً، بما يحول الفساد اداة قوة طائفية ويحول الطائفية الى أداة قوة للفساد. ومن يتصور نظاما طائفيا بلا محاصصة وبلا فساد، هو إما جاهل وإما يكذب على نفسه وعلى الناس وإما نصاب وغشاش ومهرب فكري.
وما ينطبق على المحاصصة والفساد ينطبق على كل موبقات البنية الطائفية والتي تأتي نتيجة لهذه البنية وليست موبقات طارئة.
وفي ظل نظام “تعايش” تتعايش فيه الطوائف والعشائر والعائلات الاقطاعية وبعض الظواهر الحضارية المتطورة في تركيبات عامودية، فإن هذا يتحول إلى تعايش لدول ضمن الدولة ولأنظمة ضمن نظام ولقواعد ضمن قاعدة ولسلطات ضمن سلطة، بل يتحول الأمر لأن يكون بدل نظام فصل السلطات، نظام تعايش السلطات وتعايش هياكل ثابتة ضمن كل سلطة من السلطات.
هل يعني ذلك ان الأزمة مستعصية على الحل؟ وما علاقة هذا الموضوع بتشكيل الحكومة؟؟
يجب أن نقّر أن لبنان بصيغته الراهنة والتي رست ملامحها الأساسية التكوينية في أتفاقية “سايكس بيكو” جاء نتيجة توازن القوى الذي كانت الاتفاقية من نتائجه ومعبرة عنه، كما نشوء دولة اسرائيل والدول والحدود التي ما تزال معتمدة حتى الآن على صعيد الإقليم.
ورغم الصراع السوفياتي – الغربي في المرحلة السابقة والذي أدى الى بعض التعديلات الطفيفة هنا وهناك في الأنظمة، إلاّ أن هذا الصراع لم يفرز موازين قوى جديدة في الإقليم تفرض تعديلات على الحدود وعلى التكوينات الاساسية لدول المنطقة بما فيها لبنان الذي شكل جزيرة تضمر كل بتناقضات وتوازنات المنطقة الجزئية، وتشكل موقعاً للتعبير عن هذه التوازنات يتأثر بتناقضاتها كما يتأثر بتسوياتها، وبالتالي موقعاً حظي برعاية قادة هذه التوازنات لتأمين استمراره كمتنفس، فأنفجر مواكباً للانفجارات وازدهر مواكباً للازدهارات واستقر مواكباً للاستقرار …
ومع انهيار الاتحاد السوفياتي وحلول القطب الواحد فإن هذا القطب الواحد لم يعمل على تغيير فعلي في موازين القوى بل سعى في المنطقة الى ما يحفظ مصالح
الكيان الغاصب الاسرائيلي عبر ايجاد الوطن البديل للفلسطينيين من الاردن الى لبنان الى مشروع الفوضى الارهابي الذي سعى من خلاله الى قيام دويلات صغيرة طائفية وعشائرية متناحرة، يستطيع من خلالها ايجاد دولة للفلسطينيين، وبحيث يكون الكيان الاسرائيلي الغاصب هو الحامي لهذه الدويلات المتناحرة بما يعزز دوره كدولة مركزية وحيدة في المنطقة في مقابل دول لا تتمتع بسلطات مركزية فاعلة ومستقلة.
وقد رافق ذلك محاولة ادخال عنصر الحداثة كعامل أساسي في تصنيف الدول بشرياً واقتصادياً واجتماعياً ومؤسسات وعلم الخ… بحيث تحولت دويلات صغيرة تتمتع بحداثة مستوردة كقائد لدول ذات تاريخ وحضارة وقوة بشرية وانتاجية . وبحيث اصبحت قطر او دبي قائدة لجامعة الدول العربية التي تضم مصر والعراق وسوريا والسودان واليمن وحتى للسعودية التي يحتاج الحديث حول وضعها الى مقال خاص.
وفي حين كانت تفشل هذه المشاريع بفعل نمو اقطاب دولية واقليمية معارضة له وان بأهداف ورؤى ومصالح مختلفة ولكن غير متناقضة، كان هذا النمو باستناده الى أرضية تاريخية اقتصادية وجغرافية عرفت سابقاً بطريق الحرير، يشق طريقاً نحو تعديل في ميزان القوى ما زال يحفر سريعاً، وان كان استكمال تحوله الى قطب منافس للقطب الاميركي – الغربي يحتاج الى مزيد من العمل والتكوين يصعب التأكيد على انجازه قبل الوصول الى وضع نظام مالي عالمي مواز للنظام الذي تمسك به حالياً الولايات المتحدة الاميركية.
العماء اللبناني
رغم أن لبنان هو موقع تظهير وتمثيل لتوازنات المنطقة وتعديل الموازين فيها، إلاّ أن تركيبته التكوينية الطائفية والعشائرية والعائلية الاقطاعية المتعايشة مع بعضها والمتعايشة مع بعض المدنية والحضارة والحداثة، هذه التركيبة ذات الطابع الزبائني أي التي تعمل معظم مكوناتها زبائن عند القوى الخارجية، تتميّز بتنوع فريد غير ثابت ووفق مقتضيات مصلحة طابعها العام زبائني ولكن ترتبط بمصالح داخلية ومن دون تغيير توجهات كبرى، كأن تكون زبائن للغرب، ولكن تتراوح بين الولايات المتحدة الاميركية أو فرنسا أو عرب متحالفين أو بالأحرى خدم لهذا أو ذاك أو حتى اسرائيل وفقاً لما تقتضيه مصالح داخلية من دون طبعاً الإنتقال من الغرب الى الشرق مثلاً.
وهذه التركيبة نتيجة لزبائنيتها سريعة التأثر بالتناقضات التفجيرية، ولكنها بطيئة التأثر بالتسويات ونتائجها كونها تنتظر حتى نضوج هذه التسويات ووصولها إليها، ولم تكن يوماً جزءاً من قوى الطاولة التي تتخذ القرارات بالمواجهات وتتخذ القرارات بالتسويات. وهي بالتالي تركيبة متلقية وليست فاعلة.
ولذلك نسمع دائماً وعند كل أزمة مواقف تطالب بالمساعدة والدعم والمكرمات في ظل غياب كامل لمشاريع الاستثمار في القدرات والامكانات والمميزات التفاضلية على كل صعيد.
لن ندخل هنا في دور كل طائفة وكل عشيرة وكل عائلة اقطاعية وفي دور كل مؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات غير الحكومية والمؤسسات العلمية والثقافية، لأن هذا يحتاج الى مساهمة كبيرة جداً وقد يكون هذا البحث ضروريا في مرحلة لاحقة لأن تحديد هذا الدور فيه إشارات واضحة للعلل التكوينية للبنان. إلاّ أننا سنكتفي كما يقال وب “الجملة” بأن هذا “التعايش” هو تعبير عن المشكلات في تناقضات هذه المكونات وفي النظام الذي يتميز بتأمين التعايش من دون أن يؤمن الوطن والمواطنة.
غربة الحكومة عن الواقع
كل هذه الوقائع توصلنا اليوم الى غربة تشكيل الحكومة الحالية عن الواقع. وهي غربة لبنانية بإمتياز انطلاقاً من كل ما ذكرنا عما يسمي مزايا أو موبقات هذا اللبنان.
نحن اليوم أمام اتجاهات كبرى لتغيير فعلي في موازين القوى، ولكن للأسف عند تشكيل الحكومة رأينا القواعد عينها تراعي السخافات عينها: من يسمى من؟ الثلث المعطل؟ صلاحيات رئيس الجمهورية؟ صلاحيات رئيس الحكومة السني؟ الدور الفرنسي؟ ماذا تريد السعودية؟ هل اذا اتخذنا هذه الخطوة أو سمينا الوزير المعين نحصل على المساعدات؟ الخ…
لم يدخل في تشكيل الحكومة لا اسماء ولا توازنات تراعي العوامل الآتية: قدرة لبنان على تحقيق الردع المتبادل مع العدو الاسرائيلي؟ تحرير جرود لبنان من الإرهاب؟ فشل المشروع الاميركي في العراق وفي سوريا وافغانستان؟ الوجود الروسي في الإقليم سياسياً وعسكرياً وسياساته التي ترفض الخروج عن القانون والمؤسسات الدولية؟ دخول الصين كقوة اقتصادية في الإقليم والمشاريع الصينية في سوريا خصوصاً والعروض الصينية للبنان التي تمنح لبنان دوراً في اعمار المنطقة التي تعاني من دمار هائل؟ الوجود الايراني كدولة اقليمية ذات نفوذ من جهة وايديولوجية من جهة ثانية تعمل بقواعد تختلف عن القواعد السياسية المصلحية المعروفة في العقل الغربي اجمالاً؟ المحروقات الايرانية التي تشكل كسراً للحصار الاميركي ومدخلاً لدخول الاقتصاد اللبناني في اقتصادات دول الممانعة ودول طريق الحرير؟ التفاعل الأميركي مع خطوات كسر الحصار واحتمالات تطور هذه التفاعلات وتطورات كسر الحصار؟ وووالخ…..؟
كل ما بحث في تشكيل الحكومة هو بحث تقني سخيف وانطلاقاً من رضا دولي على الرئيس نجيب ميقاتي أو بالأحرى تسمية دولية للرئيس ميقاتي الذي تتم تسميته عادة في ظروف محدودة معروفة… فإضافة الى الصلاحيات والتمثيل وشد الحبال ذا الطابع المصلحي الداخلي وصل الأمر الى الحديث عن وزراء يمثلون التدخل الفرنسي أو التدخل الاميركي وكان التركيز على وجود حكومة تحظى برضى صندوق النقد الدولي والبنك الدولي … الخ…
لقد تم تشكيل الحكومة وكأن القوات الاميركية ما تزال في افغانستان وتدمر سوريا والعراق وتحاصر لبنان، وكأن الكيان الصهيوني ما يزال يملك قدرة العربدة، أي أن الحكومة نمت وكأنها في ظل وجود سفارة أميركية في لبنان هي سفارة اقليمية، أو كأن مشروع السفارة الاميركية الاقليمية الجديدة في بعبدا قد تم فعلاً أو كأن لبنان مستضعف ولا وجود فيه للمقاومة التي كسرت الحصار الاميركي بالأمس وهي قوة اقليمية تهدد الكيان الاسرائيلي وتعد بقوة بتحرير فلسطين وساهمت مساهمة فعالة في الحرب الاقليمية على الارهاب وهي على الطاولة في رسم مستقبل المنطقة وقادرة على استنهاض وضع يخرج لبنان وقواه السياسية من الزبائنية الى السيادة بل أكثر إلى الشراكة في وضع وصنع تاريخ ومستقبل المنطقة ومنها لبنان. كبداية لإنهاء تاريخ “سايكس بيكو”.
نعيش التناقض بين أزمة التكوين وبين الواقع والفرص. ولكن السؤال المهم هل تنجح بالمطلق سياسة تراكم المعطيات والوقائع من دون مواجهة فعلية؟ أم أن قوة التكوين المتأصلة مع الضربات المهزومة الانتحارية ستكون قادرة على تسخين التحول في ميزان القوى وجعل ولادة التوازن الجديد تتم تحت نار القذائف؟.