رأي

كَنْزُهُمُ المَكْنُون..الذي يعيشُ في القُلوب (غازي قانصو)

 

بقلم: د.غازي قانصو- الحوارنيوز

لَمْ يَكُنْ مُجَرَّدَ رَجُلٍ، بَلْ كَانَ حِكَايَةً مُمتَدَّةً عَبْرَ القُلُوبِ، مَحفُورَةً فِي نَبْضِ الأَرْوَاحِ الَّتِي عَاشَتْ عَلَى ظِلَالِهِ، تَنْهَلُ مِنْ نُبْلِهِ، وَتَسْتَضِيءُ بِهَديِهِ. حِينَ غَابَ، لَمْ يَغِبْ وَحْدَهُ، بَلْ أَخَذَ مَعَهُ قِطَعًا مِنْ أَرْوَاحِهِمْ، صَفَحَاتٍ مِنْ ذَاكِرَتِهِمْ، وَوَهَجًا مِنْ يَقِينِهِمْ. لَمْ يَكُنِ الحُبُّ الَّذِي احْتَشَدَ فِي وَدَاعِهِ وَلِيدَ المُجَامَلَاتِ، وَلَا مَدْفُوعًا بِسُلْطَةٍ، بَلْ كَانَ حُبًّا عَمِيقًا، مُتَجَذِّرًا، لَا يُقَاسُ بِعَدَدِهِ وَلَكِنْ بِسَطْوَتِهِ النَّافِذَةِ فِي الذَّاتِ، بِحُضُورِهِ الَّذِي لَا يُمْحَى حَتَّى فِي الغِيَابِ.

 

عِنْدَمَا حَمَلُوا نَعْشَهُ، اجْتَمَعَتِ المُدُنُ والقُرِى والفيافِي والقَارّاتُ والحَضَاراتُ، وكلُّ بَنِي الانسانِ، مِنْ كُلِّ حًدْبٍ وَصَوْبٍ،كَمَا لَمْ تَجْتَمِعْ مِنْ قَبْلُ؛ كِبَارُهَا وَصِغَارُهَا، أَغْنِيَاؤُهَا وَفُقَرَاؤُهَا، الشُّيُوخُ وَالشَّبَابُ، العُشَّاقُ وَالغُرَبَاءُ، أهلُ المِللِ الدينيةِ، وأهلُ الاتجاهاتِ الفكريةِ، وأهلُ المواقفِ السياسيةِ، وأهلُ الانتماءاتِ على اختلافِها، كُلُّهُمْ كَانُوا هُنَاكَ، فقَدْ أَدْرَكُوا أَنَّ رَحِيلَهُ لَيْسَ فَقْدَانٍ لِشَخْصٍ، بَلْ هُوَ خَسَارَةٌ لِكَنْزٍ ظَلَّ بَيْنَهُمْ وَقَد أدْرِكُوا قِيمَتَهُ الكَامِلَةَ.

 

الشُّيُوخُ سَارُوا بِعَكَّازَاتِ عزيزةٍ، يَخْطُونَ نَحْوَ الجِنَازَةِ بِأَقْدَامٍ أَثْقَلَتْهَا السِّنُونُ، يَسْأَلُونَ صَمْتَهُ الأَخِيرَ عَنْ حِكْمَةِ الأَيَّامِ الَّتِي لَمْ تُسْعِفْهُمْ فِي رَدِّ الجَمِيلِ. كَانَ لَهُمْ إبنُا لَمْ تَنْجِبْهُ أصلابُهُمْ، وَسَنَدًا حِينَ انْحَنَتْ ظُهُورُهُمْ تَحْتَ ثِقْلِ العُمْرِ.

 

الطِّفْلُ، بِثَغْرِهِ الصَّغِيرِ، حَاوَلَ أَنْ يَنْطِقَ الحُزْنَ، وَلَكِنَّ الحُرُوفَ كَانَتْ أَكْبَرَ مِنْ لِسَانِهِ المُرْتَبِكِ، فَكَانَ يَبْكِي بُكَاءً لَا يُشْبِهُ بُكَاءَ الأَطْفَالِ المُعْتَادَ، بُكَاءً يَلِيقُ بِفَقْدَانِ مَنْ كَانَ يَمْسَحُ دَمْعَتَهُ دُونَ أَنْ يَطْلُبَ، ويقولُ لأمِّه: ألم أقل لكِ يا أمي أن تأخذيني الى السّيِّد. الأُمُّ حَمَلَتْ رَحْمَتَهَا الرَّبَّانِيَّةَ فِي نَظْرَتِهَا الأَخِيرَةِ، لَمْ تَبْكِ نَحِيبًا، بَلْ هَمَسَتْ بِالدُّعَاءِ، كَأَنَّهَا تَرُدُّ لَهُ دَيْنًا لَمْ يُكْتَبْ عَلَيْهِ سَدَادُهُ، وَكَمْ كَانَ دَيْنًا ثَقِيلًا، لَا يُقَاسُ بِالذَّهَبِ وَلَا يُوَفَّى إِلَّا بِذِكْرَى خَالِدَةٍ.

 

أَمَّا الفُقَرَاءُ، فَقَدْ وَقَفُوا فِي زَاوِيَةِ الجِنَازَةِ وفي قَلبِها وعَلَى جوانبِها، لَا يَبْكُونَ فَحَسْبُ، بَلْ يَحْمِلُونَ بَيْنَ أَضْلُعِهِمْ يَقِينَ الفَقْدَانِ الأَعْظَمِ؛ فَقَدْ كَانُوا يَرَوْنَهُ غِنَاهُمْ المَخْفِيَّ؛ كَنْزَهُمُ المَكْنُونَ، الَّذِي لَمْ يَكُنْ يُشْعِرُهُمْ بِالفَقْرِ، بَلْ كَانَ يُغْنِيهِمْ عَنِ الحَاجَةِ.

بِرَحِيلِهِ، سَقَطَ الجِدَارُ الأَخِيرُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ العَدَمِ الذي يخافُونَه، لا لقلة رَجائِهِم فَرَجاؤهُم باللهِ كبيرٌ، ولكن لأنهم تذكروا الأيامَ النَّحِساتِ الذي لازمت طُفُولَتهم وشبابَهم قبلَه، فَأَصْبَحُوا عُرَاةً أَمَامَ قَسْوَةِ الحَيَاةِ.

 

أَمَّا الشَّبَابُ وَالشّابّات، فَكَانُوا أَكْثَرَهُمْ وَجَعًا؛ تَعَلَّمُوا مِنْ ظِلَالِهِ كَيْفَ يَكُونُ الحُبُّ ضَوْءًا لَا يَحرِقُ أهلَه، كَيْفَ يكونُ العِشقُ دِفْئًا لَا يُطْفِئُ الحَيَاةَ، وَكَيْفَ يَكُونُ الوَلَاءُ أَسْمَى مِنَ الرَّغَبَاتِ العَابِرَةِ. كَانَ حَدِيثُهُ عَنِ الحُبِّ قصائدَ كُبرى في العِرفان، وَكَأَنَّ رُوحَهُ كَانَتْ تَرْجَمَةً حَيَّةً لِمَا لَمْ يَكْتُبْهُ الشُّعَرَاءُ والأدباءُ فِي قَصَائِدِهِمْ ومؤلّفاتِهم.

 

وَفِي وَسَطِ الجُمُوعِ، كَانَ من المثقفين كثيرُون اعتادوا على أن يكتُبوا، ويحلٍّلوا، ويستنتجوا. هاهُم الآن، تَائِهوُن بَيْنَ الهاماتِ وَالأَقْدَامِ، يَبْحَثُونَ عَنْ كَلِمَاتٍ تُدَوِّنُ هَذَا المَشْهَدَ الَّذِي لَا يُكْتَبُ. كَيْفَ يُمْكِنُ لأحدِهِم أَنْ يُسَطِّرَ هَذَا الحُبَّ المُتَجَسِّدَ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ، هَذَا الحُزْنَ الَّذِي يَفِيضُ كَالنَّهْرِ فِي الطُّرُقَاتِ؟ وينتشـرُ ما بين الأرضِ والسماءِ،  أَدْرَكَ واحدُهُم حِينَئِذٍ أَنَّ بَعْضَ المَشَاهِدِ لَا تُكْتَبُ بِالحِبْرِ، بَلْ تُنْقَشُ فِي القُلُوبِ، وَبَعْضَ الكَلِمَاتِ لَا تُنْطَق، بَلْ تُحَسُّ وبعُمقٍ كبيرٍ من المشاعرِ الاستثنائيّةِ..

 

عِنْدَ الغُرُوبِ، وَقَفَتِ المُدُنُ كلُّها أَمَامَ النَّعْشِ، فَرَأَتْ فِيهَا وَجْهَ الأَوْلِيَاءِ وَالأَنْبِيَاءِ والقادَةِ الصُّلحاء، الأخيارِ الأبرارِ، أُولَئِكَ الَّذِينَ مَرُّوا عَلَى هَذِهِ الأَرْضِ وَتَرَكُوا وَرَاءَهُمْ إِرْثًا لَا يُمكِن أن يُنْسَى.

 

وَحِينَ حَلَّ المَسَاءُ، لَمْ يَكُنِ الحُزْنُ، على السَّيِّدِ، الوَحِيدَ فِي المَشْهَدِ، بَلْ كَانَ هُنَاكَ أَلَمٌ آخَرُ، أَلَمٌ يَتَفَكَّكُ دَمْعَةً دَمْعَةً، لَكِنَّهُ لَمْ يُطْفَأْ، بَلْ تَحَوَّلَ إِلَى يَقَظَةٍ، إلى حِكمةٍ، إلى عِلمٍ، إلى درايةٍ، إلى طاقةٍ، إلى معرفةِ القُوّّةٍ!!!

 

رَحَلَ الرَّجُلُ البَهِيُّ عَنهُم، وَلَكِنَّ أَثَرَهُ بَاقٍ فيهِم وفي جميعِ الأجيالِ التي تليهِ وتليهِم. إِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ الآنَ أَنَّ الكُنُوزَ الحَقِيقِيَّةَ لَا تُدْفَنُ، بَلْ تَعِيشُ فِي القُلُوبِ، وَتُوَرَّثُ فِي الذِّكْرَيَاتِ، وَتَكبُرُ مَعَ الأجيالِ القادِمَةِ وَفِيها كُنورٍ لا تَخْبُو ولا تَنْحَسِرُ، إنّما تَتَجَدَّدُ وتَستَمِر.

 

مع تَحِيّاتِي،

د.غازي قانصو

الاثنين الواقع فيه ٢٤ شباط ٢٠٢٥

 

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى