رأيصحف

كي تقوم للشرق قائمة [2/2]: عرب وفرس (كما خلف الطويل)

 

الحوارنيوز – صحف

تحت هذا العنوان كتب كمال خلف الطويل في صحيفة الأخبار:

 

بدءاً، فما عجّت علاقة بين أمّتين جارتين بقدر من أسباب سوء التفاهم مثلما هي علاقة الأمّتين العربية والإيرانية، ولدواعٍ بعضها سياسي وموقوتٌ بأزمانه ومسبّبيه، وجلّها غير مبررٍ لا بالتاريخ ولا الجغرافيا ولا المنطق.وأقول أمّة إيرانية كتعريف، إذ هي شعوب أكبرها الشعب الفارسي والذي يشكل 45% من تعداد الأمّة وعمادها الثقافي والحضاري والدولتي، يليه الشعب الآذري (تركي) بنسبة 25%، ثم تتوالى شعوب الكرد والبلوش والتركمان والعرب لتكمل النصاب.
والحق أنه ما قاتل الفرسُ العربَ يوماً بعد الإسلام إلّا في ثمانينيات القرن العشرين، ولم يكونوا البادئين. لقد دارت الحروب العثمانية – الصفوية، عبر القرنين السادس عشر والثامن عشر، بين قبيلتين تركيتين تمذهبتا – أيام سليم الأول وإسماعيل الصفوي – كلٌّ في اتّجاه، وكتعبير عقائدي عن صراع دامٍ على السلطة خاضاه بالنار والدم على أرض العراق العربي، متّخذين من شيعته وسنّته أدوات صدام استعر فتنة أضعفت أوصال عالم الإسلام حينها، خصوصاً وهو الذي تشظّى بين أعمدة ثلاثة لا أسلاك توصيل بينها: عثمانيّو الأناضول وصفويّو إيران ومغول الهند.
طوال العهد القاجاري، والذي استمر لقرن ونصف قرن، لم تخرج إيران من حدودها ولا خدشت أيّاً من جيرانها، بل كانت المتلقّي لغزو قياصرة الروس, والذين انتزعوا منها شمال أذربيجان وحيّزاً واسعاً من آسيا الوسطى.
في الطور الأول من العهد البهلوي، جرت عملية إلحاق خوزستان/ عربستان بإيران، عبر تفاهم إيراني –بريطاني هدأت بعده إيران، رغم بعض تشنّج، عام 37، طالب بنصف شط العرب.
في الطور الثاني، والذي بدأ منذ إعادة الشاه من روما على حراب وكالة المخابرات المركزية عام 53، أخذت إيران مساراً موازياً ومماثلاً لقرينها التركي في ارتباط تبعي وثيق بالمصالح الاستراتيجية العليا للولايات المتحدة، وبما تمثّلَ عداءً شرساً لحركة التحرر العربية، كان الشاه محمد واحداً من أبشع رموزه وأكثرها جلافة وغلظة.
امتشق الرجل سيف وترس الهجوم على شرق الأمّة، سواءٌ في تدخّله السافر في الشمال الكردي للعراق، تحريضاً وأزراً لكرديّته السياسية لتكون رأس حربة في استنزاف العراق وإضعافه، وبالتنسيق العملياني التام مع إسرائيل، تحت عين رضى السيد. أم في اللعب داخل أسوار الحوزات الشيعية في النجف وكربلاء والكاظمية. أم في التمدّد لبنانياً، فسخاً للشيعة عن السنّة، وبأمل استعمالهم ضد حركة التحرر العربي، وهم من هم حجماً ونوعاً في رفدها بالكوادر والجمهور. أم في القتال المسلح المباشر ضد تمرّد ظفار الشيوعي بعمان. أم في التحالف التنافسي مع آل سعود ليكونا عمودَي تأمين الخليج تحت الخيمة الغربية. أم في تموين إسرائيل بالبترول ومشتقاته. أم في المساهمة بحرب المرتزقة على ثورة اليمن الجمهورية… الخ من سلسلة عداء لا يعرف حدوداً.
لم يكن الطريق من اتّجاه واحد بالطبع، إذ شكّل جمال عبد الناصر تهديداً مؤرّقاً للشاه، ليس فقط في الخليج وما حوله فحسب، وإنما في عقر داره… إيران. ربما لا يعرف كثيرون أن شعبيّة عبد الناصر عند غالبية جماهير الأمة الإيرانية، وبالأخص منها الطبقات الوسطى والدنيا، كان لا يعدلها أو يفوقها بقليل إلا شعبية بطلهم الوطني الدكتور محمد مصدق. لم يكن التباين المذهبي، ولا كانت الحساسيات التاريخية القديمة، عقبة أمام تولّع الجماهير الإيرانية بعبد الناصر. لقد مثّل لهم المقاوم المسلم الشجاع والممثل لنزوعات المسلمين وبني العالم الثالث في وجه طغاة الأطلسي ودُماهم، هذه قيمته ورمزيته وإشارته للمستقبل ووعوده.
وبعد أول انتفاضة شعبية، في حزيران/ يونيو 63، تزعّمها الإمام الخميني، مدّ عبد الناصر حبال الوصل معه ومع حوارييه وتلامذته، بأمل أن يصلوا ذات يوم إلى حدّ القدرة على خلع الشاه من جذوره. أول ما فعله كان تأمين وفوده وإقامته في العراق بعد طرد الشاه له من وطنه، وبالتنسيق مع عبد السلام عارف عام 65. ولولا حرب 67 وهزيمتها لكانت النقلة الثانية، بعد طرد الإنكليز من عدن، مع نهاية عام 67، هي التركيز على قلب نظام الشاه.
ما علينا! كانت قد مضت دزينة أعوام على هزيمة 67 عندما شبّت الثورة الإسلامية في إيران وأطاحت بالشاه وحكمه، فكانت واحداً من أكبر إخفاقات وكالة المخابرات المركزية، وربيبتَيها البريطانية والإسرائيلية، بسبب سوء تقديرهم للحال في إيران، ونضوج ظروفها الموضوعية لتغيير ثوري كاسح، وقدرة الخميني على إنفاذ ذلك. ربما لم تنقصهم المعلومات، لكن التحليل كان في وادٍ غير ذي زرع، وكما حدث بالضبط في التعامل مع نشوب حرب أكتوبر، بل وحتى في السقوط السوفياتي المزلزل.
سارعت واشنطن إلى بذل كل جهد ممكن لقلب النظام الوليد، وصل إلى ذروته مع قرارها، منذ خريف عام 79، استعمال العراق أداة لهذا الهدف، مستغلة شعور نظام بعث العراق بالنازلة وقد اقتربت من حوافه مع صعود الخميني، لا لأنهم طردوه، في تشرين – 1/ أكتوبر 78، ترضية للشاه بعد اتّفاقهم معه في نيسان/ أبريل 75 على وقف دعمه للتمرّد الكردي مقابل تناصف شطّ العرب فقط، وإنما لأنه –الخميني – آمن أن من بدأ بطهران لا بد وأن يثنّي ببغداد، سيما والعراق مسكون بغالبية شيعية نسبية – غالبيتها الساحقة عربية الهوية – طال أمد تهميشها -في عرفه – ويستطيع، إن وصلت إلى الصدارة، أن يستقوي بها نصيراً وحليفاً وجاراً مستأمناً ورديفاً.
وعوضاً عن أن يُبطل نظام بغداد مفعول هذا العامل المستجدّ عبر وحدة أقامها مع نظام بعث دمشق، صاحب العلاقات الجيدة مع ثوار طهران، وعبر توسيط منظمة التحرير الفلسطينية، صاحبة الأيادي البيض عليهم وهم في المنافي، فعَل النقيض، بل وصل به الأمر أن أصاخ السمع لمعسكر المحافظة العربية وهو يتلو عليه مزامير النذير والوعيد القادم من الشرق، والذي لا سبيل قِبَله إلا الحرب الوقائية الاستباقية.
كان لـ«الوكالة» فضل كبير في إنضاج الطبخة عبر رجليها – الجنرال عويسي والجنرال فردوسي – اللذين أوهما الرئيس صدام حسين بانحدار أحوال الجيش الإيراني بعد الثورة إلى الدرك الأسفل، وبأنه إن فوّت الفرصة ولم ينقضّ على فريسته الجاهزة الآن يكون قد ضيّع وللأبد فرصة العمر.
لم يمض أسبوع واحد على بدء صدام للحرب في 22 أيلول/ سبتمبر 80 إلّا ووصل إلى اقتناع ذاتيّ بضرورة وقفها للتوّ، مبعثه إدراكه الصحيح لخطل ما فعل وفداحة ما ارتكب.
أيامها، كان أحمد حسن البكر متقاعداً في منزله، وروى مَن قابله فيه حينها أنه كان يتلوّى من الغيظ وهو يضرب كفاً بكف غضباً وحسرةً على تورّط العراق بحرب مجنونة كالتي شنّها. كان يردّد: لو كنت رئيساً لما سمحت بذلك… هو منتهى الحماقة والحمق.
وعبر سنة وشهور ثمانية من الاجتياح العراقي لخوزستان/ عربستان، خرجت الحرب من طور فوز عراقي بدئي إلى انتصار إيراني جليّ، وصل إلى حدّ هزيمة القوات العراقية وإجلائها عبر نهر كارون لا تلوي على شيء.
ولولا هاشمي رافسنجاني لتوقّف الخميني عن الحرب مع نهاية أيار/مايو 1982، ويا ليته أصرّ وفعل، ذلك أن مصيبة استمرار الحرب سنوات ست عجاف أخرى هي في التحليل الأخير مسؤوليته ومسؤولية نظامه، كما هما السنتان الأوليان مسؤولية صدام بامتياز.
لقد كانت هذه الحرب هي الأولى بين العرب والفرس – كقوميّتين – بعد الإسلام، وابتغى محرّضوها أن تكون إسفيناً نزل كالمطارق على مسامّ الوصال بين غالبية الإسلام السنّية وأقليّته الشيعية، وأن تكون أخدوداً انحفر بعرض مجرى النيل بين العرب والفرس.
والحال أنهم نجحوا في ذلك وأخفقوا، وما أحوال العراق ولبنان في السنوات الأخيرة إلّا شاهداً على تأرجح المآل، مع رجحان نجاح في العراق بالذات، أقلّه للآن.
يأخذنا ذلك إلى موضوع التباين المذهبي:
إنّ الوشائج المذهبية، بين إيران ذات الأغلبية الشيعية الساحقة والعراق ذي الأغلبية الشيعية النسبية، هي في ذاتها أمر طبيعي ومتوقع بل وصحي، هذا إذا كانت في إطار التعاون و/ أو التنافس الحوزوي والزيارات الدينية والتثاقف الروحي، وعلى قاعدة تمثيل منصف وعادل في البنى السياسية الفوقية لكل مواطني العراق دون تفضيل أو تمايز، وبما أجهض أية قدرة لأحد خارجه على اللعب على أوتار المذهب والدين والعرق. أمُّ المسائل هي صحة العراق، مجتمعاً ودولة، ولا مندوحة عن شَرطي العدل والهيبة لينتظم حال المجتمع ويبرأ من مظنّات الهشاشة والتفكك.

إن إيران، التي شُحنت النفوس ضدها صُبح مساء في الإعلام الخليجي، هي ذاتها التي يراد تقويضها أميركياً، ليس فقط لكل ما سلف، وإنما – وربما الأهم – لدورها الشديد البروز في إدارة الصراع العربي – الصهيوني

وإذا كان من مفعِّل أساسي للتوتر السني – الشيعي في العراق فهو حرب الثمانينيات المجنونة، والتي استولدت مناخاً من الريبة والشك، بين المركز والجنوب، تكاثف حتى بلغ، غداة الحرب الأميركية الأولى على العراق، حد الانفجار العشوائي الساخط. لقد كانت سنوات الحصار 1990-2003 ذروة عذاب العراق العربي ومكابدته، هجعت عبرها التوتّرات المذهبية بفعل شراكة الحرمان، لكنها ما لبثت أن أخرجت رأسها للسطح لحظة سقوط الدولة، يوم 9 نيسان/ أبريل 2003، على يد الاحتلال الأميركي.
لقائل أن يقول إن السبب إيران، ولي أن أقول: إن إيران – كما حدث قبلها بعامين في أفغانستان – ما كانت – بالمطلق – لهوفة على تموضع القوات الأميركية على شرقها أو غربها، أو هما معاً. لقد تعايشت إيران مع وجود «طالبان» في السلطة لسنوات خمس، رغم التوتر الشديد عام 98 بينهما، لسبب بسيط وهو أنها ليست مصدر تهديد ملحّ، رغم كونها مبعث إزعاج منغّص. في المقابل، تساكنت القيادة الإيرانية مع نظام صدام بعد هزيمة 91 ليقينها أنه، وهو المحاصر أرضاً وبحراً في أفظع نظام عقوبات شاملة عرفته البشرية، أضعف من أن يقدر على الخرمشة، دعك عن الإيذاء، ومن ثم فلا بأس من احتماله إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً. وحتى مع نجاح العراق عام 2000 في إضعاف مفاعيل الحصار، كانت إيران قادرة على تدبّر أمورها مع نظامه، إذ ما زال أمامه سنوات طوال قبل أن يعود ليشكل تهديداً. من هنا تفضيلها – في قراءتي – أن يبقى صدام حاكماً على أن يأتي المارينز للحدود. لماذا؟ لأنها تُيقن، بالسليقة والتحليل معاً، أن احتشاد القوات الأميركية على جانبَي الحدود إن هو إلا موطّأ لاندياحها عبرها إلى الداخل، سبيلاً إلى قطع رأس النظام، بل وإعادة بناء الدولة الإيرانية على صورة ما انتوته للدولة العراقية – ومن بعدها السورية: أي كيساً مفدرَلاً فضفاضاً.
لمن أقنع نفسه بأن الولايات المتحدة تستطيع – إلا قسراً – قبول قبوع هذا النظام على البرزخ بين قزوين والخليج أن يراجع نفسه برويّة الدارس النبيه للجيوستراتيجيا بشقَّيها الاقتصادي والسياسي، إذ هما الجائزتان اللتان تحاول واشنطن العضّ عليهما بالنواجذ قدر ما استطاعت لكونهما وسيلتَيها لأمركة القرن الواحد والعشرين، ولا مكان بينهما لنظام مستقل الإرادة، عاصٍ على مناطق النفوذ، وعصيٍّ على الاستتباع والخضوع. لذا، فالراجح أن طهران لم ترغب في جوار واشنطن لها، وإن أدّى ذلك في طريقه إلى الخلاص من نظامَين معاديين، لوافر علمها بأنه منصة للقفز على عمقها. لكنها تعاملت مع الأمر الواقع في الحالتين – كقدر مقدور – بأكثر السبل دهاءً وإعمالاً للحكمة الإنكليزية: إن لم تستطع ضربه انضمّ إليه. من هنا سماحها لأداتها العراقية – عبد العزيز الحكيم – بالقدوم إلى واشنطن، أواخر عام 2002، بعد إيقانها أن قرار الحرب قد اتُّخذ وشقّ سبيله للتنفيذ.
كان التنسيق فعل اضطرارٍ، في نظر طهران، ورغم ذلك، فهي حتى الأسابيع الأخيرة قبل الحرب حاولت – مع وافر يأس – عبر حليفها اللبناني السيد حسن نصر الله، درء الحرب عبر ندائه للمصالحة الوطنية العراقية بين أعداء الماضي والحاضر، أي «البعث» الحاكم والشيعية السياسية في المنافي.
والشاهد أن طهران انتهجت في العراق، منذ 9 نيسان، نهجاً زاوج بين التمسكن حتى التمكّن، زاوله حلفاؤها في الشيعية السياسية، وبين ارتضاءِ زواج متعةٍ مع المحتل أوصلهم إلى سدّة الحكم ليؤمّنوا لها حينذاك عراقاً جاراً مسالماً غير مهدّد، بل وصديقاً وربما حليف.
والحاصل أن رغبة إيران، وفق منطق الأشياء، هي أن ترى عراقاً موحّداً لا مشظّى ولا مقسّماً، ولسبب أساسي وهو أن التقسيم جائحة معدية إن تُركت للتصاريف. إن إيران فسيفساء إثنية – مذهبية من الطراز الأول، نواتها فرس شيعة متموضعون في هضبة البلاد المركزية، ويقلّون عن نصف الأمة، فيما محيطها مسكونٌ من كل الجهات بأقليات إثنية تفيض عن النصف بقليل، ويغلُب جغرافياً عليها اللون السني (التركمان والبلوش والكرد بنسبة 15%)، وديموغرافياً الجذر التركي (بنسبة 25%)، ويقطنُ في أهم مناطقها – مكمن الطاقة – عرب شيعة بما يتجاوز المليونين. إن التلاعب بالمشهد الإثني –المذهبي في العراق هو وصفةُ عدوى للداخل الإيراني إن انفلتت الأمور من عقالها.
وما من شك في أن تمدّد طهران، نفوذاً وتأثيراً، إلى دواخل المشهد العراقي، يسّرته وأفسحت المجال له عوامل ثلاثة:
1 – غياب مرجعية عربية مركزية تمسك بأعنّة المنطقة لتؤمّن حالة مناعة معقولة ضد التدخّل الأجنبي.
2 – وضاعةُ حال الشيعية السياسية الدينية ومذهبيتها الفاقعة وضعف حسّها الوطني، دعك عن عروبة لها مفقودة، فضلاً عن الشيعية السياسية العلمانية، وهي التي في جلّها مخالب قطٍ للأجنبي وبيادقُ شطرنج يحرّكها وفق هواه راضيةً قنوعة، لا تعرف من المذهب إلا استغلاله، ولا تعرف إلى الدين سبيلاً.
3- رعونة المقاومة العربية – السنية وهي تخلط في عملياتها بين مقاومة المحتل والاحتراب مع ما يفوق نصف شعبها وشريكها في عروبة العراق.
وبصراحة القول، فإن السنّية السياسية العراقية، وبالذات منها المقاوِمة – وفي القلب منها المنبثقة من رحم الجيش العراقي – فشلت حتى في محاولة الوصول إلى كلمة سواء مع إيران، بل على العكس صفونَتها وأعجمتها وهاجمتها آناء الليل وأطراف النهار، مساويةً إياها بالاحتلال الأميركي، غافلةً عن أن إيران هناك في الجوار لتبقى، وأن العداء معها لا يجدي بل يضرّ، وأن هناك فقهاً للأولويات، وأن خروج المحتل مشروطٌ ببيئة مجتمعية مسهّلة وليست حاجزة أو معيقة. لقد كان قرار التعرّض بالنار للمدنيين الشيعة واحداً من أغبى ما اتّخذته منظومة المقاومة السنّية الطابع، سواء منها الإسلامي/القومي، أو البعثي، أو السلفي/ الجهادي. لقد استفادت الشيعية السياسية الدينية أيّما استفادة من هذا الحمق الضاري، فجيّشت جمهورها المتسارع الاتّساع، طوال عامين ونصف عام – منتصف عام 2003 إلى مطلع عام 2006 – لنازلة حرب أهلية أكلت الأخضر واليابس، عامَي 2006–2007، وجرفت في طريقها أمان المجتمع العراقي وسلمه الأهلي.
لقد خسر العراق العربي كله، وخسر السنّة بالتحديد، ما فاق أيّ وصف: في سكناهم وأمنهم ورزقهم، فمنهم هاجر مئات الألوف إلى الجوار، وأحياؤهم كانت ما تعرّض للإجلاء ووضع اليد، ونفوسهم هي التي تحصى أرقاماً مجهولة كل يوم بالعشرات.
وطالما حال عرب العراق على هذا المنوال، فإن فراغ القوة يسمح لكل جارٍ، فضلاً عن المحتل، بتثمير أوراقه في الداخل، عوضاً عن أن يكون العراق ذاته مالك أمره وسيّد مصيره.
إن إيران، التي شُحنت النفوس ضدّها صُبح مساء في الإعلام الخليجي، هي ذاتها التي يراد تقويضها أميركياً، ليس فقط لكل ما سلف، وإنما – وربما الأهم – لدورها الشديد البروز في إدارة الصراع العربي – الصهيوني. ما يُؤخذ عليها بالتحديد – فضلاً عن مجرد جلوسها على البرزخ – هو اتّباعها سياسات «قومية عربية» في إقليم الشام… هكذا! وفي أنها أضحت القطب الإقليمي النابذ للوكيل الإمبراطوري… إسرائيل.
والثابت أن إيران دخلت القرن الواحد والعشرين وعلى متن أشرعتها مشروع قيادة ذو صعد عدة شملت: الشيعي، والمناطقي (وهنا تقع «عتف» – أي العرب والترك والفرس – وإن شراكةً لا انضواءً، كما ينبغي أن تكون)، والإسلامي، والعالمثالي.
يُحسب لها أنها صعدت بعدما نكص العرب، ويُحسب لتركيا أنها تصعد بينما هم قاعدون. لكن القيادة – مشروعاً – غير أهلٍ للتبوّؤ من طرف واحد في عالم الإسلام، سواء كان إيران أو تركيا، ولا حتى العرب وحدهم، سواك عن مسلمي الأطراف.
إن الحامل الوحيد لمشروع قيادة شامل لكل الأقانيم، وممسكٍ بأوراق الطاقة إنتاجاً ونقلاً وتكريراً وتسعيراً ومصبّات ومنصّات تحميل، هو ائتلاف «عتف»، ونظرة طائر على الخريطة كفيلة بإبصار أي بصير.
ومن حقٍّ أنه – الائتلاف – ليس مطلوباً لمصلحة أطرافه وحدها، بل لمتلازمة من عالم الإسلام والعالم الثالث، تمتد بعدهما بالأواصر والوشائج إلى العالم السلافي وفي الصدارة منه روسيا، وإلى الفضاء الهوني أي الصين، بل قد تعيد الهند إلى حسن السيرة والسلوك الذي كانت عليه في عصر عبد الناصر إثر أن تكتشف عقم التحوّل إلى محور ارتكاز إقليمي في خدمة الغرب، حاله حال أستراليا وإسرائيل وبريطانيا وأثيوبيا…
لن يُقنع إيران بتواضع مطلوب منها وللجوار، إلّا نهوض عربي ملأ فراغ انكماشهم بل وتضاؤلهم الراهن، وأعاد الأحجام إلى قياساتها المعقولة، لدرء أن تكون الإضافة لطرف نقصاناً من الآخر، بل أوانٍ مستطرقة وصلت الحوامل بالنواقل بانسياب وفى كلّ ذي حق حقه.
نصل من ذلك كله إلى القول إن ما جمع إيران بالعرب فاق بأطنان وقناطير ما فرّقها عنهم، والعكس صحيح. وحتى في الشأن العراقي، فإن مصلحة إيران المتوسطة المدى هي في خروج المحتل، وهو ما يريده العرب، أمةً من شعوب. القصة إذاً هي طبيعة الدولة العراقية الجديدة، وهي لعَمري مسألة لا يعسُر التوافق حولها، في غياب المحتل.
والأكيد أن أحداً سيعترض قائلاً: ما هذا التناسي والتغافل عن «فارسية» الخليج، والجزر الثلاث وما أدراك؟ أقول: إن قاعدة التبادلية و/ أو التراضي في قضايا أراضي المسلمين هي التي توجّب أن تُرسى وتسود. خوزستان/ عربستان هي إيرانية التبعية، وعربية الثقافة، ومنوِّهاً بأن عربها وقفوا ضد الاجتياح العراقي أعوام 80-82، وقاتلوا تحت الرايات الإيرانية لإجلاء العراقيين عنها. أمّا لجهة التسمية، أليس العديد من متشاطئي بحر العرب ليسوا بعرب، وإن ارتضوا التسمية؟ عرفَ التاريخ الضارب الجذور مسميَّين: بحر العرب وخليج فارس (وليس الفارسي).

ترك وفرس
طوال معظم القرن العشرين، لم تعرف العلاقة التركية – الإيرانية إلّا التواؤم والاتّساق، نظراً إلى اندراج الاثنتين في سياق التبعية الغربية حتى الثمالة. والحاصل أن تلك التوأمة قد توقفت عن العمل مع الثورة الإسلامية في إيران، لكن ذلك لم يدشّن السبيل إلى صدام ساخن، ولا حتى توتر محسوس بينهما، لأن الحكمة وسداد فهم التاريخ والجغرافيا لديهما أوجب عليهما التزام حدود التعايش السلبي. مع بداية التسعينيات، طفت إلى السطح المسألة الكردية بما شكّلته من تهديد متعاظم لأمن إيران القومي (وهي التي أباحت لنفسها استعماله ضد العراق طوال حرب الثمانينيات)، كما لتركيا وسوريا، وبطبيعة الحال للمتضرّر الأكبر العراق، فشكلت مهمازاً متبارزاً لحلف ضرورة متنامي الخواص. ومع وقوع زلزال الغزو الأميركي، تنامت المشتركات أكثر فأكثر، وانفتحت آفاق جديدة على تعاون الأنابيب من عبدان إلى إسكندرون وسيحان.
إنّ إمكانية التضافر الإيراني – التركي هي الراجحة في المستقبل، قريبه وأبعده، وما نقصه وتدٌ عربيٌ رفع خيمة إثمها الشرق، توصيفها غرب آسيا وامتدادها الإفريقي، دينها الإسلام، وعنوانها: عتف.
آن للإسلام – بمعناه الجيوستراتيجي والحضاري – أن يكون رافعة تجميع ولمِّ شمل، وهو على ذلك مستطيعٌ وقادر. إيران وتركيا تقتربان – وإن بتفاوت – من جاهزية العزف ضمن أوركسترا واحدة بنوتةٍ واحدة ومايسترو واحد، حتى لو تبادلوا الأدوار. الغائب الأكبر هو العربي ذو المرجعية، يُخرج من ساحة القرار عبّاد الأجنبي، وينظِّم عقداً انفرط في منظومة مستقلة الإرادة والقرار والسياسة.
ليس ذلك على الله – وعباده – بكثير، والله أعلم.

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى