كيف نتذوق الفن؟
ما هو الفن ؟ سواء الادب (شعر و نثر) او الموسيقى أو الرسم أوالروايه او بقية انواع الفنون الاخرى ؟ هل يمكن الاجابه بكلام محدد يستطيع ان يستعرض إجابات بعينها على سؤال الجمال ؟ بكلام أخر ، هل من تعريف محدد لماهيّة الفن وجوهر قدرته على خوض اسئله الحياة ..سواء عند الفرد أو مع المجموع ؟
كثيراً ما يُفاجَئْ الفنانين الكبار سؤال محير يطالبهم فيه الناس بإجابات محدده لماهية ودور ومهمات الشعر ؟ الفن ؟ الجمال ؟ . وانا رغم كوني لست بشاعر ولا مقتنع بِإجابات أكثرهم لهذه الاسئله ، تراني اتعجب وأنا أقرأ محاولات أجوبتهم ولا اعرف مقاصدهم بها .
ورغم كوني لا ادري كيف اجيب على هذه الاسئله الصعبه بقناعات معينه ولكني اعتقد ان الشعر والفن هو عباره عن مجموعه اشياء وإجابات لأسئله ،سأحاول تحديدها بالصياغه المناسبه لها كأسئله او كإقتراحات لأجوبه لها ، أهمها بأنها سحر يداهم شخصاً مؤهلاً ليتلقاه ، فاذا لم يتلقفه بحب فسيتركه فوراً الى فنان اخر يسحر فيه مراده . .. ولكن ليصبح الشعر شعراً والفن فناً عليك ان تتلقفه بما يوازيه من الموسيقى والدهشة ،وكأن روح انثى خارقه الجمال حلّت أمامك فجأه تطلب رأيك وانت مبهور ومسحور بها وتحاول تلقفها والاحتفال بها وبتجميلها اكثر بفساتين وموديلات مبتكره من ادب وشعر ونثر او عزف أو تأليفات موسيقيه ، وقد يصدمك احياناً حقيقة انه حتى أجمل الفساتين وأكثرها شعراً ونثراً وموسيقى قد لا يناسبها ابداً ، وأنك يجب ان تتقبل فكرة ان تبقيها بعريها الذي أتتك فيه لاول مره ، لان جمالاً اخر مهما برعت بإضافته فوق جمالها الأولي قد يفسد ما أبدعه الله فيها من سحر ! .. فاقبل الامر فوراً وابتعد عن الغيره لان الشعر والفن فيه سيفنى اذا حاولت اقتناءه وأسره في آرائك واجتهاداتك مهما كانت عميقه .
سره إذن في شيوعيته وانتشاره كمثل اريج زهره الغوايه التي تحمّلها الزهره بنفسها ورضاها للريح كهديه بلا مقابل قبل موتها ، لتنثره تلك الريح بسفرها في الكون عبر تنوّع البقاع والمناخات والعوالم ومن خلال كل حواس البشر المستقبلين لها بالروح والفكر والفن ، فتنشر عبائرها في المخيال العام والذاكره الجماليه الجمعيه لجميع الشعوب والأعراق ،فتتنوع بتنوّعهم وتتضاعف لتؤتى ثمارها المتجدده لنتذوقها كل منا بخصوصيته ونستمتع بها بالتفاعل الجمعي المختلف والمتعدد بتنوع أصناف الادب وتعدد الوان الهويات الموسيقيه من المونوتون إلى أكثر انواع البوليفونيا تعقيداً وثراءً …
ومع استمرار تأثير شيوع تنوع سحر هذه الظاهره بطرق مختلفه لا طاقه لاحد على فقهها و تخيُّلها يجب أن تدع عنِك مشاعر الغيره ،وتقبل هذا السحر كما هو ببساطه دون ان تحاول المساومه على ذلك ابداً ! . اما اذا ما حصل و توجّه لك الشعر أو الفن عموماً بسؤال ما .. فإياك والاجابة عليه مهما كنت مقتدراً او كانت ثقتك بنفسك عاليه ، بل اترك للإجابه ابواباً كثيره مفتوحه ليدخل التنوع ويسرح عبرها الحب وهو يرسل ويستعرض سحره في الغموض دون قيود ، لان سر الشعر والفن عموماً لا يحيى ويزدهر إلا في قوة الغموض واتساعه المفتوح على تنوعنا في الذوق اكثر بكثير مما سيبقى فيه إحداها حراً في رتابة الوضوح وسهولته .. وتذكر ان الفن والشعر تربته ليست الارض والرمال .. بل تربته هي السماء والرياح والنسيم والنور والشمس والقمر والليل والنجوم واتساع الكون على احتمالات وجوده في عظمة ولا محدودية الخلق والخالق ، وعبر هذا الاتساع اللامتناهي في الكون سيبقى الفن يسعى في غموض إعاده تدوير التحديد والقناعات التي ستبقى تحاول ان تقبض عليه بتعريف هنا وتحديد هناك، سيصيبان جماله بالوهن والرتابه والترهّل .الفن يرفض العمر والتعريف والتأطير والحدود وتذكر ان اول الفن والشعر هو السؤال ، وآخره سيبقى ايضا في السؤال وبين سؤال وسؤال ستسقط اسئله كثيره وتضمخل امام أكثرها دقه ورهافه في ملامستها للسهل الممتنع ، وبينهما ستسعى الاجوبه في اللاوصول الى جواب واحد أحد ، لان سر الحياة يبقى في كون الجواب لامنتهي في المُنْجَزْ ولاوصول فيه الا في القناعات النهائيه !
واجمل ما في هذا اللغز هو سر الحياة والموت الذي استطاع ان يُعبّر عنه الاخوان عاصي ومنصور الرحباني في عملهما الرائع "جسر القمر " وهما يلبسان الاسئله أجمل فساتينها تلوّنا بالزهو والاتساع على غموض السهل الممتنع الذي لا يتكبّر على البسطاء في الارض ولا يتنازل عن الفخامه والموهبه في المنجز عند الفنانين المتخصصين الكبار .. والتي عبرها بقيا يتوسلان الاجابات المتنوعه على اسئلة الوجود والحب والحريه بالفن والشعر والموسيقى وبصوت الناس ( وهنا تحديداً بالكورس ) وهو يغني خلف سيدتنا الاولى فيروز قُدِّس الله سر صوتها الرحباني المقدس في الذاكره الجمعيه للناس المتلهفين دائماً للاحتفال بجماليات ما قدمه فكر وفن عاصي ومنصور اللامسبوق بسرهما وبلحنهما وشِعرهما الرائع والخالد ،وهو يغني هنا تحديداً مع الكورس الذي يمثل الناس البسطاء اللذين يريدون الاجوبه المحدده على اسئله الوجود والحياة فيقول بلسانهم وهمومهم ووعيهم ما يلي :
– بدنا نعرف .. سر الاشيا
معنى الاشيا شولّي مخبى ؟
شولّلي بهالعتمه بيرفرف ؟
بدنا نعرف ! نحن جينا لنعرف !
– بدنا نعرف كيف ؟منين ؟ لوين ؟ وشو هيي؟
كيف بتبدا وكيف بتخلص كل الخبريه ؟
والاشيا لبتصير تراقب خلف السهريه
وبتهدر بالليل وتبكي وصوتا بخوِّف
بدنا نعرف لمّا منغفى مينلّي بيوعى ؟
وبصير يدبِّك بدعسه منهاش مسموعه
والطاحونه لمدري وينا ومنهاش مقشوعه
وشردانه بحراش الليل ومدري شو تقطف
بدنا نعرف ! نحن جينا لنعرف …….