تولى جو بايدن رئاسة الولايات المتحدة الأميركية متسلحا بتاريخ حافل من الخبرة في مجال السياسة الخارجية.
لقد كان مهتما بالسياسة الخارجية منذ ان انتخب عضوا في مجلس الشيوخ عن ولاية دلاوير في مطلع سبعينيات القرن الماضي ،ثم أصبح رئيسا للجنة الشؤون الخارجية في المجلس لسنوات طويلة.
وعندما انتخب نائبا للرئيس السابق باراك أوباما عام 2008 تولى العمل على ملفات مهمة في مجال السياسة الخارجية مثل الصين والعراق وأوكرانيا بتفويض من رئيسه.
بدا هذا السجل متناقضا تماما مع سجل الرئيس السابق، دونالد ترامب، الذي لم يكن سياسيا بل دخل السياسة من عالم المال والأعمال، لكنه استطاع جمع تأييد كبير في قواعد الحزب الجمهوري. وقد أثارت سيرة ترامب ومسيرته في منصب الرئيس حنق وإدانة الحزب الديمقراطي الذي وحد صفوفه خلف بايدن.
لذلك حرص بايدن منذ بداية رئاسته على اتباع مسارات مخالفة لترامب والتشديد على ذلك. وفي مجال السياسة الخارجية تحديدا ألقى بايدن خطابا في مقر وزارة الخارجية الأميركية في حي (فوغي باتوم) في واشنطن تحدث فيه عن أهداف سياسته الخارجية وتفاصيلها.
ورفع بايدن شعارا موجها لحلفاء الولايات المتحدة في العالم يقول إن أميركا عائدة لتقود العالم، لكن بالمشاركة والتفاهم مع الحلفاء التقليديين الذين أربكهم ترامب ونهجه الذي ابتعد في أكثر من مناسبة عن التقاليد المعروفة في العلاقات بين أميركا وحلفائها.
وهنا من المهم الإشارة إلى أن السياسة الخارجية ترتبط كثيرا بالأمن القومي، ولا سيما في حالة الولايات المتحدة، الدولة الأقوى في العالم والأكثر ارتباطا بصراعاته وأزماته.
وقد كانت التحديات التي واجهها بايدن هي التحديات نفسها التي واجهها ترامب, وأهمها الصين باقتصادها القوي وطموحاتها الكبيرة، وروسيا بقوتها العسكرية والسياسية، وإيران بملفها النووي ونفوذها الإقليمي. لكن أسلوب مواجهة تلك التحديات أصبح مختلفاً.
تعتبر روسيا القوة العسكرية الثانية في العالم من حيث الترسانة النووية ومن حيث الانتشار العسكري والتأثير السياسي في قضايا وصراعات ممتدة في القارات المختلفة. وطالما اتهم ترامب من خصومه باللين والضعف أمام روسيا .
وقد كانت قمة ترامب مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في هلسنكي عام 2018 والطريقة التي ظهر بها ترامب في المؤتمر الصحفي المشترك مثالا كبيراً على ذلك عند منتقدي ترامب.
بالرغم من تقدم طالبان، بايدن غير نادم على الانسحاب من أفغانستان.لذلك حرص على الظهور بمظهر القوي الواضح في حواراته مع بوتين. ولم يظهر معه في أي مؤتمر صحفي مشترك بعد أن التقيا في لقاء قمة في مدينة جنيف في سويسرا، بل ظهر كل منهما في حديث منفصل مع الصحفيين. وقد شدد بايدن على أنه وضع ثوابت الموقف الأمريكي واضحة أمام بوتين.
إلا أن المواجهة بين إرادتي البلدين ليست سهلة خصوصا في أوكرانيا حيث ينتهي العام مع حشود عسكرية روسية على حدود أوكرانيا وتحذيرات أمريكية وغربية لبوتين من اجتياح أوكرانيا.
وقد خصص بايدن قمة مع الرئيس الروسي عقدت عن طريق الفيديو شدد فيها على تحذيره من أن أميركا ستفرض عقوبات اقتصادية شديدة على روسيا إن هي اجتاحت أوكرانيا. لكن لا يعتقد ان بايدن سيقدم على أي تدخل عسكري حتى ان مضت روسيا فيما يحذر منه الغرب.
صدمة أفغانستان
أما الصدمة الكبرى لحلفاء بايدن وأصدقائه فكانت الطريقة التي انسحب بها من أفغانستان. فقد شاهد العالم كله صور الانسحاب الأميركي من مطار كابول وتشبث آلاف الأفغان بالقوات المغادرة ثم عملية إجلاء كبرى أمر بها بايدن لكن تخللها هجوم شنه تنظيم الدولة الإسلامية قتل فيها ثلاثة عشر جنديا اميركيا ثم غارة أميركية أخيرة قتلت بالخطأ عشرة مدنيين أفغان بينهم سبعة أطفال.
جاءت بعدها زيارات بايدن الى أوروبا للحديث المباشر مع الحلفاء وشرح ما جرى وما سيجري. وليس أمام الحلفاء غير محاولة العمل مع الولايات المتحدة فهي مازالت القوة العظمى الأكبر والحليف الأكبر في حلف شمالي الأطلسي الذي تأسس في القرن الماضي وهو اليوم يواجه تحديات القرن الحالي.
الموقف من إيران
مع إيران يسعى بايدن إلى العودة إلى الاتفاق النووي الذي انسحب منه ترامب. وقد تحدث مطولا مع حلفائه الأوربيين حول خياراتهم في مواجهة ايران إن لم تنجح المفاوضات معها في العودة إلى الاتفاق النووي.
المفاوضات تسير بصعوبة وبطء في فيينا بين إيران من جهة وممثلي الدول الكبرى، إذ ترفض إيران الحديث مباشرة مع الولايات المتحدة، كما وتقول إدارة بايدن أن إيران لم تقدم أي شيء بناء وتحذر من أن الوقت ليس مفتوحا بلا نهاية.
لكن بايدن يشدد على أن الدبلوماسية هي الخيار الأول رغم الضغوط التي يتعرض لها من إسرائيل الحليف الأقرب للولايات المتحدة في الشرق الأوسط والتي تشعر بالقلق من البرنامج النووي الإيراني، وهي ترفض في الوقت نفسه فكرة عودة أميركا الى الاتفاق النووي ورفع العقوبات عن ايران.
القضايا العربية
في القضايا العربية، عاد بايدن الى أسلوب تقليدي يسعى للتهدئة لا للتقدم.فبدلا من مشروع ترامب للصراع الفلسطيني الإسرائيلي الذي أثار غضب كثيرين في العالم العربي والإسلامي وقاطعته السلطة الوطنية الفلسطينية، عاد بايدن الى سياسة اكثر تقليدية تتمثل في دعم حل الدولتين ودعوة الأطراف لتجنب التصعيد.
وقد لعبت مصر دورا مهما في التهدئة بعد الحرب التي جرت في غزة عام 2021 وهو الأمر الذي عزز العلاقة بين واشنطن والقاهرةـ رغم أن إدارة بايدن حجبت جزءا من المساعدات العسكرية عن مصر وربطت ذلك بحدوث تحسن في مجال حقوق الانسان.
وفي العراق اتفق بايدن مع الحكومة العراقية التي تتمتع بعلاقات قوية مع أميركا وإيران على إنهاء المهمة القتالية للقوات الأمريكية في العراق. لكن هذا لن يعني انسحاب القوات الأميركية من العراق وهو الأمر الذي يطالب به حلفاء ايران في ذلك البلد. أما ما يعنيه الاتفاق تحديدا فلن يعرف إلا عندما يطبق على الأرض وسيعتمد الأمر كثيرا على ما ستصل له مفاوضات الملف النووي مع إيران ومستقبل السياسة الأمريكية وخياراتها إزاء طهران.
مثل العراق، تبدو الأمور أهدأ أيضا في سوريا وليبيا ولكن تلك الدول تنتظر اتفاقات واستحقاقات سياسية تلعب إدارة بايدن دورا فيها.
أما اليمن، فلم ينجح بايدن حتى الان في إيقاف الحرب الدائرة هناك رغم تعهده بذلك. وعلى وقع حرب اليمن تستمر العلاقة باردة بين إدارة بايدن والسعودية التي تعهد بايدن باتباع سياسة أكثر تشددا تجاهها لكن الإجراءات التي اتخذها حتى الآن حافظت على جزء من الصلات التقليدية بين البلدين.
التحدي الأكبر
تبقى الصين هي التحدي الأكبر خصوصا تحت قيادة زعيمها الحالي القوي والطموح، شين جي بينغ. فهي صاحبة ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة. وبحسب سرعة نمو الاقتصاد الصيني يعتقد على نطاق واسع أن الاقتصاد الصيني سيصبح الأول قبل نهاية النصف الأول من القرن الحالي.
يقول بايدن إن التنافس مع بكين لا يعني الصراع بالضرورة، لكن نقاط التوتر كثيرة أبرزها تايوان التي يعد الالتزام بالحفاظ على أمنها من ثوابت السياسة الأميركية.
وقد عززت الصين على مدى السنوات الماضية من قدراتها العسكرية بصورة كبيرة وهي تعلن دائما أن تايوان جزء منها وسيعود إليها. كذلك فرضت الصين سيطرتها على هونغ كونغ وتواصل سياسة القمع الجماعي ضد المسلمين من إثنية الإيغور في إقليم شينجيانغ.
أما الحرب التجارية فما زالت رحاها دائرة بين الولايات المتحدة والصين، إذ لم يلغ بايدن قرارات ترامب بزيادة التعرفة الجمركية.
لكن العام الماضي شهد اتفاقا غير متوقع، إذ توصلت أميركا والصين إلى اتفاق في قمة المناخ التي عقدت في غلاسكو وحضرها بايدن. اتفاق ذكر اميركا وحلفاءها وخصومها بأنهم برغم كل الصراعات والخلافات التي لن تنتهي بسهولة يعيشون في الكوكب نفسه ويواجهون المصير نفسه.