كيف تدفع الولايات المتحدة لبنان أكثر نحو الحضن الإيراني؟
في هذه المقالة في فورين بوليسي الأميركية يناقش علي هاشم وضع لبنان وسط الصراع الأميركي الإيراني. يقول الكاتب إن لاقتصاد اللبناني ينهار، وخطر اندلاع صراع يتصاعد – لكن واشنطن فشلت في استيعاب اسباب امتداد النفوذ الإيراني أو السبل اللازمة لإيقافه .
"الحوار نيوز" تنشر المقالة مترجمة الى اللغة العربية:
علي هاشم – فورين بوليسي
لبنان في أزمة، وهو ما ليس بجديد. على مدى أربعين سنة مضت، هي سني عمري، كانت بلادي تعيش في أزمات متتالية. بدءا من اجتياحات عسكرية، إلى حرب أهلية، وتوترات داخلية، اغتيالات، احتلالات أجنبية، مصاعب اقتصادية، كل ما يخطر على البال، لكن كل ما سلف ليس كالذي نواجهه اليوم.
خلال أيام قليلة، برزت حالات انتحار عديدة مرتبطة بالأزمة. عمد رجل إلى إطلاق النار على نفسه في شارع مزدحم في بيروت أمام المارة وزبائن المحال. الأمور تصبح أكثر سوريالية. الأمر لا يرتبط بعجز الناس عن العمل وخسارة مدخراتهم أو عدم القدرة على شراء احتياجاتهم، لا شك أن هذه مصاعب ذات دلالة، لكننا لم نمر يوما في مثلا هذه الحالة. الفارق اليوم أن اللبناني يعجز عن الحلم بغد أفضل. وفقط أولئك الذين يجبرون على ترك هذا البلد يدركون حقيقة معنى هذا الأمر.
في العام 2005، وفي أعقاب اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، ظهر لاعب جديد في الساحة السياسية. حينئذ شغل حزب الله، المصنف منظمة إرهابية من قبل الولايات المتحدة ولكنه بالنسبة للعديد من اللبنانيين قوة مقاومة حررت جنوب لبنان عام 2000 من الاحتلال الإسرائيلي، مقاعده الأولى في الحكومة الوطنية. وفيما تقول الحكمة التقليدية أن حزب الله هو فرع أيديولوجي للثورة الإسلامية في إيران، فإنه من المهم أن ندرك أن المجموعة ليست وكيلًا لايران وانما هي امتداد عضوي للإيديولوجيا السائدة داخل إيران – مع أعضاء لبنانيين أصيلين. وهكذا، يمكن اعتباره هجينًا، بوضع مشابه لوضع الأحزاب الشيوعية حول العالم خلال حقبة الحرب الباردة.
لكن لبنان ليس كبقية الدول، الانقسامات الطائفية التي تسيطر عليه أبعد بكثير من أن تُجسر كون معظم مواطنيه يدينون بالولاء لطوائفهم قبل كل شيء. الوضع القائم الحالي هو نتيجة طبيعية للتشظي التي نما بسبب غياب الدولة المركزية القوية. فخلال النصف الأول من القرن العشرين، كان امراء الإقطاع يمثلون الطوائف، لكن منذ أواخر الستينيات، تحولت بعض الإقطاعيات إلى أحزاب سياسية، في حين أطاح الفلاحون الغاضبون بأخرى، وأصبحوا سادة حكامهم السابقين – شيعة لبنان هم َمثال على ذلك. وبلغ صعود الشيعة السياسي في أعقاب الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 ذروة تحوله بتشكيل حزب الله. الآن، في أيام البؤس والحاجة الشديدة، يعرف الناس إلى من يتجهون إذا كانوا يريدون الصمود.
كجزء من حملة الضغط الاقصى التي تمارسها الحكومة الأميركية على إيران، وبسبب دور حزب الله، تمارس الولايات المتحدة ضغطها الاقتصادي الأقصى على لبنان. ومع ذلك فالقول بأن ذلك قد دفع لبنان إلى سقوط حر لا يعبّر واقعا عن حقيقة الأزمة، بل هي أكثر عمقا وقسوة من ذلك. فالبنوك خلت من الدولارات، وانقطاع التيار الكهربائي يسود العاصمة على نطاق واسع، والشركات تغلق أبوابها بسبب نقص الزبائن، وقد انخفض الحد الأدنى للأجور من حوالي 450 دولارًا شهريًا إلى 80 دولارًا حتى كتابة هذه السطور. إن راتب الوزير الشهري قبل بضعة أشهر كان يبلغ حوالي 8.500 دولار بينما هو يبلغ اليوم 1500 دولار تقريبًا.
لكن إضعاف الدولة لن يضعف حزب الله، المدجج بالسلاح، والخارج من مغامرة دامت ثماني سنوات في سوريا، والتي يعتبرها نجاحًا كبيرًا. كلما انغمست البلاد أكثر في الفوضى، كلما تمسكت الناس أكثر بطوائفها، والتي سيصبح قادتها حكامًا فعليين. إن المستقبل الذي يمكن التنبؤ به للبلد في مثل هذه الحالة الممزقة ليس حربا أهلية وانما مناطق اضطراب وعنف محلي. وفي غياب وجود دولة فاعلة، فإن أي سلطة لديها القدرة على ضبط الفوضى ستكون سلطة الشعب المفضلة. وهذا ينطبق على كل فصيل في مناطق سيطرته: زعيم الدروز وليد جنبلاط سيعزز سلطته في جبل لبنان، ورئيس الوزراء السني السابق سعد الحريري سيعزز سلطته في المناطق السنية، وكذلك سيفعل الزعماء المسيحيون المختلفون في مناطق نفوذهم، وبالطبع سيوطد حزب الله سلطته في الجنوب اللبناني على الحدود الإسرائيلية والضاحية الجنوبية لبيروت وشرقا في البقاع على الحدود السورية. في الوقت نفسه، بدأ حل إقليمي للوضع بالظهور: بحيث ستعزز إيران أيضًا قوتها، بوصفها منقذا للمجتمع الشيعي. ففي النهاية، لبنان ليس فنزويلا. وليست هناك حاجة لعبور البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي لإيصال الطعام والأدوية والوقود والإمدادات الأخرى.
وكلما ازدادت الأزمة سوءا، كلما تصاعدت الترجيحات في دخول لبنان الى الفلك الإيراني. وقد عرضت طهران على الحكومة اللبنانية بالفعل بيعها النفط والبنزين بالليرة اللبنانية – وبالتالي إنقاذ الحكومة اللبنانية من عبء انخفاض قيمة العملة الوطنية، وفي مناسبات سابقة عدة، تعهد قادتها أنه إذا وافقت السلطات اللبنانية، فإنها ستزود لبنان بالكهرباء.
كلما زادت الولايات المتحدة ضغوطها على لبنان، كلما انفتحت الفرص أمام إيران لممارسة نفوذها في الدولة المتفككة. ولن يكون ذلك بالضرورة عن طريق الحكومة الإيرانية. فالنفوذ قد يتدفق مباشرة عبر حزب الله، الذي تعهد بألا يجوع الشيعة في لبنان. وبالتالي يمكن لاستراتيجية الضغط الاميركية أن تصب بسهولة في مصلحة عدوها المعلن. يبدو أن هذا يشكل مصدر قلق في واشنطن. وتعكس تصريحات وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو بشأن منع إيران من بيع النفط للبنان هذا القلق. لكن مع تحول لبنان سريعا إلى دولة فاشلة، لن يكون هناك امامه سوى خيارات قليلة. وهذا يعني أن فكرة إنشاء اقتصاد موازٍ للبلدان الخاضعة للعقوبات تكتسب زخماً. إنها فكرة يبدو أن إيران تحلم بها رغم الصعوبات الاقتصادية التي تعانيها في ظل استراتيجية الضغط الاقصى.
لقد عبرت عن هذا الطرح خلال إحاطة اعلامية مع نائب مساعد وزير الخارجية الأمريكي جويل رايبورن في مركز السياسة العالمية. وكان الجواب الذي تلقيته هو أن الإيرانيين لا يستطيعون ممارسة مثل هذا النفوذ، لأنهم لا يملكون المال والموارد الكافية للقيام بذلك. ولكن ذلك قد لا يكون الحال على أرض الواقع. قد تكون طهران مستعدة لتحمل الألم على المدى القصير لترسيخ مكانتها. لقد عرضت إيران، في حالة لبنان وسوريا، قبول الدفع بالعملات المحلية لأنه بامكانها الاستفادة من العملات المحلية لتمويل عملياتها في سوريا وحزب الله في لبنان. وهذا من شأنه أن يحدث فرقا كبيرا لكل من الحكومة اللبنانية والعمليات الإقليمية الإيرانية.
ما فشلت الحكومة الأمريكية في إدراكه خلال العقود الأربعة الماضية من صراعها مع إيران في بلد مثل لبنان هو حقيقة أن النفوذ الإيراني قد ولد بشكل عضوي في المناطق التي يشكل فيها الشيعة غالبية سكانية. ببساطة، بالنسبة للعديد من الأسر الشيعية في جنوب لبنان والبقاع وجنوب بيروت إن إيران الضعيفة سيكون لها بالضرورة تأثير عليهم، لذلك وبرغم جميع المظالم التي قد تكون لديهم ضد إيران أو حزب الله، فإن كلاهما قد أصبح محوريًا في التفكير الجماعي للطائفة في سياق الصراع الطائفي في المنطقة. ولهذا السبب، من غير المرجح أن تتمكن الولايات المتحدة من كبح دور إيران في لبنان. لم تنجح المحاولات السابقة لتمكين المجتمع المدني داخل المجتمع الشيعي – وحتى الحرب لا يمكن أن تخلق واقعًا مختلفًا دون أن تغرق البلاد في وضع أسوأ. ومع ذلك، لا تزال هناك خيارات للحد من النفوذ الإيراني في لبنان. فمن شأن نهج أمريكي مختلف تجاه الصراع العربي الإسرائيلي أن يساعد. هذا ليس عاملاً هامشيًا على الإطلاق، خاصة بعد أن حرمت صفقة القرن حكومة الولايات المتحدة من أي قدرة متبقية للوصول إلى قلوب وعقول الناس على هذا الجانب من الحدود.
كذلك فإن إمكانية حصول انفراج أميركي إيراني في المستقبل، عن طريق أتفاق جديد قد يكون منقذاّ للبنان. ومع ذلك، ليس هناك الكثير من التفاؤل في طهران بشأن إحياء الاتفاق النووي في إطار اتفاقية 2015 حتى لو جاء المرشح الديمقراطي المفترض جو بايدن إلى السلطة؛ لذلك يهدف صانعو القرار في إيران إلى تثبيت نظام إقليمي جديد، بحكم الواقع، يمكّنهم من الجلوس على طاولة مفاوضات الإدارة الأمريكية المستقبلية مع بعض الأوراق الإضافية للمناورة. لكن مثل هذه المفاوضات تعتمد في الواقع على رغبة كل من طهران وواشنطن في توسيع نطاق المحادثات لتشمل كل الخلافات. إن أي اتفاق لا تأخذ فيه بعين الاعتبار جميع القضايا العالقة بين الولايات المتحدة وإيران سيزيد الأمور سوءًا في المناطق التي تتصادم فيها مصالح الدولتين.
تحت هذه الظروف، لم يبق للبنانيين سوى خيارات محدودة، حتى أولئك الذين يؤمنون بالحرب الأهلية كحل لهذه الأزمة، وهم قلة، يدركون جيدا أن حتى هذا الخيار مستبعد بشكل كبير، بلحاظ الأزمات الاقتصادية التي تهز العالم بما يعنيه ذلك من انكفاء الجميع عن تمويل حرب أهلية سيخرج منها في النهاية حزب الله منتصرا. فالحرب السورية تجربة ماثلة في الأذهان، ولبنان أصغر ب ١٧ مرة من جارته سوريا.
يجب الا يُضغط لبنان ويُخنق من خلال حملة ضغط من شأنها فقط أن تجعل الشيعة شيعة أكثر وأقل لبنانية – والسنة والدروز والمسيحيين أيضًا. سيكون مغريا اكثر بالنسبة لهم اتخاذ الطريق الأسهل ومغادرة البلاد. بالنسبة للأفراد، قد يكون الفرار أسهل. لكن البلاد لا يمكنها الفرار من نفسها.