بقلم د.م. محمد رقية*- الحوار نيوز
أدى التقدم العلمي المثير والتطور التقني الهائل خلال النصف الثاني من القرن العشرين إلى الدخول في عصر الفضاء، عبر إرسال التوابع الصناعية والمراكب الفضائية المأهولة وغير المأهولة ذات الأهداف المختلفة، والمركّب عليها أجهزة الدراسات والمسح والتصوير المتطورة لدراسة الفضاء الخارجي ودراسة الأرض ومواردها عن بعد، وبالتالي حدوث ثورة المعلوماتية التي نشهدها اليوم.
فحتى الآن يكون قد مضى 66 عاما على إطلاق التابع الصناعي السوفييتي سبوتنيك (1) الذي أطلق في الرابع من تشرين الأول من عام 1957. وهو بداية ما نسميه الآن عصر الفضاء، فتحولت بذلك أحلام البشرية إلى واقع عملي يمكن لمس نتائجه العجيبة حالياً.
لقد كان السباق الفضائي في البدايات بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية، ثم انضم إلى هذا السباق في السبعينات، فرنسا والصين واليابان وبريطانيا ، وفي الثمانينات الهند. ثم اتسع نطاق الدول التي أطلقت توابع صناعية ومراكب فضائية حول الأرض، ووصل عدد هذه الدول حالياً إلى العشرات ، وبالتالي يدور الآن حول الأرض وفي الفضاء الخارجي آلاف التوابع الصناعية والمراكب والمسابر والمحطات الفضائية ذات الأهداف المتعددة.
فمنـذ منتصـف السـتينات، عندمـا بـدأ وضـع أول تابـع صناعـي للاتصـالات فـي مــدار قريـب مـن الأرض وحتـى الآن، فـإن تكنولوجيـا الاتصــال عبـر التوابع الصناعية تطــورت بشـــكل مذهـــل وأصبحــت عنصـراً يتضمـــن كل مظاهر الحياة العصرية، من البث التلفزيوني اللحظي عبر الشبكات العالمية إلى الاتصالات الهاتفية والإذاعية عبر المســـافات الطويلة والفاكس والانترنت ونقل كل أنواع البيانات والتي انخفض ســعرها وتيســرت وســــائلها وتحسـنت دقتها بشــــكل كبير، إلى المتابعة المباشرة لأي حدث يقع على سطح الأرض إلى عقد المؤتمرات التلفزيونيــــة عبر القارات، وإجراء العمليات الجراحية والتطبيب عن بعد، بالإضافة إلى تقديم الخدمات الضرورية والهامة عند حدوث الكوارث وهي الخدمات الوحيدة التي تبقى فعالة عند حدوث الكوارث المدمرة كالزلازل .
ودعا ذلـــك إنشـــاء المنظمة الدولية للاتصالات الفضائيـــــة (انتلســـات) عام 1971،وإنشاء المنظمة البحرية للاتصالات عام 1979 (انمارسات ) التي امتد نشاطها إلى الطيران المدني عام 1990 ، وظهر العديد من المنظمات والشركات الإقليمية للاتصالات (انتر سبوتنيك ، يوتلسات ،عربسات، نايل سات ، غلوبال ستار، ايريديوم ، ITU ، الثريا، ،الخ) إضافة إلى أقمار تابعة لدول محددة بعينها وهي كثيرة جدا.
والآن وبعد مرور هذه السنوات، نستطيع أن نقول إن ارتياد الإنسان للفضاء نقل البشرية إلى مرحلة جديدة قدمت الكثير من الخدمات والرفاهية إلى المجتمع البشري وقادت إلى ظهور ثورة المعلومات والاتصالات الحالية ، التي حولت الكرة الأرضية إلى قرية صغيرة .
شركة SpaceX )سبيس اكس( وتوابع ستارلينك (Starlink) والانترنت المباشر
اعتبارا” من عام 2002 بدأ القطاع الخاص الأمريكي من خلال شركة “سبيس اكس” التي أسسها الملياردير ايلون ماسك (والذي ارتبط اسمه بشركة “تيسلا” للسيارات الكهربائية)، بالدخول الى سوق الاتصالات الفضائية بالتنسيق مع الهيئات ووكالات الفضاء الأمريكية الحكومية لإطلاق الانترنت الفضائي المباشر الذي يسمح بنقل كميات كبيرة من المعلومات بسرعة إلى أي نقطة على الأرض ،من دون الحاجة إلى كابلات الألياف الضوئية على مستوى العالم. ومن أهدافها أيضا تقليل تكاليف النقل الفضائي لتمكين استعمار المريخ.
حتى لو بدا أن شركات خاصة تنخرط بصورةٍ متزايدة في السفر الفضائي، مثل شركة سبيس اكس SpaceX (التي يملكها إيلون ماسك، وشركة Blue Origin(التي يملكها جيف بيزوس، مؤسس شركة “أمازون”)، وغيرها، فإن التكنولوجيا المستخدمة طورتها المؤسسة العسكرية، أو جرى تطويرها بالتعاقد معها.
كما أن دخول القطاع الخاص على الخط، لا سيما في العقد الفائت، جرت التهيئة له تدريجياً من خلال تشريعات وقرارات تنفيذية وبرامج عمل تتيح تعبئة كل قوى المجتمع في المشروع، بالتنسيق بين القطاعين العام والخاص.
تسعى سبيس اكس SpaceX ) ) الى اطلاق عشرات الآلاف التوابع الصناعية المسماة Starlink لتوفير خدمة الإنترنت التجارية. يهدف مشروع ستارلينك توصيل الإنترنت لجميع أنحاء العالم عبر إطلاق توابع صناعية مدارية قريبة من الأرض خلافاً للتوابع التقليدية في المدار الثابت . ومنذ 2015 بدأت بنشر هذه التوابع حيث شكلت في يناير 2020 ، أكبر كوكبة توابع صناعية تم إطلاقها على الإطلاق ، واعتبارًا من أيار (مايو 2022) أصبحت تضم أكثر من 2400 تابع صناعي صغير في المدار القطبي المنخفض على ارتفاع 550 كم عن سطح الأرض . وتوابع ستار لنك ، مصممة لتقديم إنترنت عالي السرعة للمستهلكين في أي مكان على هذا الكوكب.
سجلت SpaceX أول عنوان رئيسي لها في عام 2010 ، عندما أصبحت أول شركة خاصة تطلق حمولة في المدار وتعيدها إلى الأرض سليمة – وهو شيء لم تفعله سوى الوكالات الحكومية مثل وكالة ناسا أو وكالة روس كوزموس الروسية.
كما أن شركة Blue Origin ، المملوكة لمؤسس Amazon جيف بيزوس، أرسلت صاروخًا إلى حافة الفضاء وهبط في وضع مستقيم في وقت سابق من عام 2015، لكنه كان رحلة تجريبية ولم يصل إلى المدار.وقد استخدمت الشركة مركبتها الفضائية دراغون لنقل شحنات غير مأهولة إلى محطة الفضاء الدولية.
نظام الإنترنت المتقدم عالميا
يعمل Starlink internet عن طريق إرسال المعلومات عبر فراغ الفضاء ، حيث تنتقل أسرع بكثير من كابل الألياف الضوئية ويمكن أن تصل إلى عدد أكبر بكثير من الأشخاص والأماكن.وفي حين أن معظم خدمات الإنترنت عبر التوابع الصناعية تأتي اليوم من توابع ثابتة بالنسبة للأرض تدور حول الكوكب على ارتفاع حوالي 36000 كيلومتر ، فإن Starlink تشكل كوكبة من التوابع التي تدور حول الكوكب بالقرب من الأرض ، على ارتفاع حوالي 550 كيلومترًا ، وتغطي الكرة الأرضية بأكملها.
نظرًا لأن التوابع الصناعية Starlink في مدار منخفض ، فإن وقت بيانات الرحلة ذهابًا وإيابًا بين المستخدم ، والتابع الصنعي – المعروف أيضًا باسم زمن الوصول – أقل بكثير من التوابع الصناعية في المدار الثابت بالنسبة للأرض. ويمكّن هذا Starlink من تقديم خدمات مثل الألعاب عبر الإنترنت التي لا تكون عادةً ممكنة على أنظمة النطاق العريض عبر الأقمار الصناعية الأخرى.
في مارس 2017، قدمت شركة SpaceX إلى لجنة الاتصالات الفيدرالية خططًا لإرسال كوكبة من 7518 تابعا صناعيا إضافيًا على النطاق V في مدارات غير متزامنة مع الأرض لتوفير خدمات الاتصالات.
في فبراير 2019، شكلت شركة سبيس إكس شركة شقيقة، وهي شركة سبيس إكس للخدمات، لترخيص تصنيع ونشر ما يصل إلى مليون محطة أرضية ثابتة للتوابع والتي ستتواصل مع نظام ستارلينك الخاص بها.
بيانات ستارلينك
بحسب الشركة فإن، سرعات نقل البيانات خلال الإصدار التجريبي تراوحت بين 50 ميغا بايت لكل ثانية إلى 150 ميغا بايت ،وزمن انتقال من 20 مللي ثانية إلى 40 مللي ثانية في معظم المواقع على مدى أشهر عديدة حيث تقوم بتحسين النظام.
وحاليا وفقا لموقع ستارلينك، هناك سرعات تنزيل تتراوح بين 25 و 220 ميغابت في الثانية، مع تمتع غالبية المستخدمين بسرعات تزيد عن 100 ميغابت في الثانية. وتتراوح سرعات التحميل عادة بين 5 و 20 ميغابت في الثانية.
وتذكر ستارلينك، أنه مع إطلاق المزيد من التوابع الصناعية، وتثبيت المزيد من المحطات الأرضية وتحسين برامج الشبكات، ستتحسن سرعة البيانات ووقت الاستجابة ووقت التشغيل بشكل كبير. وتوقع ايلون ماسك، أن تضاعف الخدمة سرعاتها القصوى إلى 300 ميغابت في الثانية.
جدير بالذكر أن اللجنة الفيدرالية الأمريكية أقرت في 2021 خطة “سبيس إكس” لنشر مزيد من التوابع الصناعية “ستارلينك” في المدار المنخفض للأرض، ما سيسمح بتقديم الإنترنت السريع لمن ليست لديهم فرصة للوصول إليه.
حتى بداية تموز يوليو 2023، بلغ عدد توابع ستارلينك في المدار 4519 تابع صناعي ، منها 4487 تابعا قيد التشغيل، وفقاً لموقع “الشركة”. وتأمل شركة “سبيس أكس” في النهاية الوصول إلى حوالي 42000 تابع صناعي في المدار ،،وفي المرحلة الأولى يصل العدد الى 12،000 تابع
تتوفر خدمة إنترنت ستارلينك في 40 دولة. ولدى الولايات المتحدة حق الوصول إلى ستارلينك ، وهذا يشمل بورتوريكو وجزر فيرجن الأميركية. ومن الدول أيضًا كندا واستراليا ونيوزيلندا، وفرنسا والمملكة المتحدة وألمانيا، واوكرانيا ،إضافة الى هولندا، والنمسا، وبلجيكا، وأيرلندا، والدنمارك، وسويسرا، والبرتغال، وبولندا، وإيطاليا، والسويد، وجميع دول البلطيق، وعدة دول في أميركا الجنوبية. وفقا لموقع ” World Pobulishion review
المساهمة في الحروب
إن أحد أهم عناصر الدعم الغربي للقوات المسلحة الأوكرانية هو استخدام الاتصالات السريعة والمشفرة لشبكة توابع “ستارلينك” ،بعد أن عطل الروس التابع الصناعي الأمريكي Via sat، الذي كان يربط الاتصالات بين هيئة الأركان ووحدات الجيش الأوكراني، قبل بدء العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا يوم 24 شباط / فبراير 2022 وجرى تحريك 50 تابعا صناعيا صغيرا فوق أوكرانيا، تعمل كمنظومة متكاملة يصعّب تهكيرها و تزويدها بعدد كبير من حقائب ظهر صغيرة تحتوي معدات اتصال بهذه التوابع، وأعلنت “ستارلينك”، من جهتها، أن خدمة الإنترنت عبر توابعها، والتي تكلف المشترك الواحد 90 دولارا في الشهر حاليا، سوف يقدم مجاناً في أوكرانيا. فضلاً عن تزويد أوكرانيا بأفضلية في الفضاء الافتراضي عبر ربطها مع الغرب والعالم، بشبكة “ستارلينك”، في الوقت الذي يجري فيه حظر وسائل الإعلام الروسية، وتلك المؤيدة لروسيا، من الفضاء العام.
هذا وتم استخدام Starlink أيضاً في إيران خلال الاحتجاجات التي شهدتها البلاد في عام 2022 بتخطيط ودعم غربي لها منقطع النظير .
وانتقد مستخدمو إنترنت صينيون، الملياردير إيلون ماسك، بعدما قالت بكين إن محطتها الفضائية اضطرت لاتخاذ إجراءات مراوغة لتجنب الاصطدام في مناسبتين، مع توابع «سبيس إكس» الخاصة به، ما وجه ضربة إلى سمعة رجل الأعمال في بلد لاقت فيه سيارات «تسلا» الكهربائية بيئة حاضنة لها ،وقال المتحدث باسم الخارجية الصينية خلال مؤتمر صحافي، إن الولايات المتحدة تجاهلت التزاماتها بموجب معاهدات الفضاء الخارجي، وعرضت رواد الفضاء للخطر.
وفي هذا الإطار قال خبراء عسكريون صينيون إن شبكة توابع “ستارلينك”، يمكن اعتبارها تهديداً لأمنها القومي. بسبب مخاوف من استخدامها من قبل واشنطن في أغراض عسكرية، خصوصاً بعد توقيع “سبيس إكس” عقداً مع البنتاغون يتضمن تطوير أدوات قادرة على اكتشاف وتعقب الأسلحة التي تفوق سرعتها سرعة الصوت.
وذكرت دراسة منشورة في مجلة “Modern Defense Technology” الصينية ، بأن بكين “بحاجة إلى تطوير قدرات لتتبع ورصد، وإذا لزم الأمر تدمير توابع ستارلينك “عند ازدياد خطرها
غزة والاتصالات المقطوعة
على أثر قيام الكيان الصهيوني بقطع الانترنت والاتصالات بكافة اشكالها في قطاع غزة يوم الجمعة الماضي،27 اكتوبر والذي يتعرض لحصار جائر على مدى أكثر من سبعة عشر عاما ،وقصف جنوني بكل أنواع طائرات الغرب الأطلسي ومدافعه، ومنع الماء والوقود والغذاء من الوصول اليه على مدى أكثر من ثلاثة أسابيع بعد عملية طوفان الأقصى الاسطورية وسقوط عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى معظمهم أطفال ونساء ، فقد ظهرت الدعوات لتوفير خدمات الإنترنت الفضائي عبر توابع ستارلينك.
وقد أعرب الملياردير الأميركي إيلون ماسك، السبت، عن استعداده لتوفير خدمات الإنترنت الفضائي ، في قطاع غزة، وذلك في حال تقدمت إحدى مؤسسات الإغاثة الرسمية بطلب لتفعيل الخدمة في المناطق الفلسطينية. وقال ماسك إن الخدمة ليست متوفرة في غزة حتى الآن لسببين، الأول نتيجة عدم وجود تغطية للمنطقة الفلسطينية بشبكة توابع ستارلينك الفضائية، والسبب الآخر يعود إلى أنه لم يتم التقدم بأي طلبات تجارية من القطاع، للحصول على أطباق استقبال الخدمة وتهيئة بيئة رقمية مناسبة للحصول على خدمة الإنترنت الفضائي.وطلب التواصل مع المنظمات الاغاثية بالقطاع المعترف بها دوليًا من أجل بحث الأمر.
وعلى الرغم من علاقة ماسك الطيبة مع نتنياهو والكيان وإعلان تعاطفه مع الكيان منذ عملية طوفان الأقصى الاعجازية، فقد جاءت موافقة ماسك مفاجئة للكيان وضربة له ولاقى ذلك ردة فعل كبيرة للكيان تمثلت في تصريحات وزير اتصالاته الذي قال إن تل أبيب ستلجأ إلى كافة الوسائل لمنع ماسك من تزويد منظمات الإغاثة في قطاع غزة بالإنترنت، ولكي لا تخسر ماسك وخشيتها من انتقال تقنيات الانترنت الفضائي الى قطاع غزة وفصائل المقاومة الفلسطينية .وخوفا من الحلول التي يمكن أن تقوم بها الاتصالات المصرية ، فقد أعاد الكيان الاتصالات بشكل تدريجي بعد 30 ساعة من قطعها .
وللعلم فإن الكيان هو المتحكم بقطاع الاتصالات في فلسطين وفق اتفاقية أوسلو المذلة وبروتوكول باريس ، وهو المشرف على خطوط الاتصالات والكابلات بين الضفة والقطاع، كما أنه يتحكم بالكابلات الدولية.
* باحث أكاديمي وكاتب سياسي