بقلم د. محمد سعيد بسام – الحوار نيوز
في اعقاب الحرب الاهلية، وكنت قد درّست منهاج البكالوريا الرسمية، وشاركت في امتحاناتها لمدة 15 سنة، وبعد انتقالي الى الجامعة اللبنانية ساحة الفكر الاكاديمي الحر، وبحماس المثقف الوطني اللاطائفي، نشرت بعد الطائف مقالة نقدية لمنهاج التاريخ الرسمي اللبناني، من قديمه الى وسيطه وصولا الى حديثه والمعاصر، في مجلة “الدفاع الوطني” ، وغايتي كانت وما تزال، استخدام التاريخ وسيلة لتوحيد المجتمع اللبناني المفكك، وصَهره في بوتقة الوطن المكين.
فبدلا من ان تطغى عليه، من يوم وضعه ، توصيات المنتدب الفرنسي، واهواء بعض مكوِّنات لبنان الكبير، أثْرةً وعقائد ومفاهيم لـ”بيت بمنازل كثيرة” – رحم الله قائله المؤرخ كمال الصليبي – كانت رؤيتي التربوية ان نحو اربع اخماس اللبنانيين لا يجدون انفسهم في هذا التاريخ؛ ورد الفعل الاولي كان استنكار هذا التاريخ، يليه نكران هذا الكيان، والالتجاء حتى الالتحاق باي قشة تنقذهم من الغرق في لبنانية ليست لهم قشة ناصريةً كانت او بعثية او قومية او فلسطينية
وبالمقابل، وبغياب فرنسا المنتدبة، لجأ الشريك اللبناني المؤسِس الى رديف خارجي، عربيا كان يومها (اردنيا او بغداديا او سعودياً)، او تركياً – غربيا (بريطانيا تحديدا). وكان اول صدام اهلي لبناني بعد الاستقلال الرضيع. وحمدا لله ان رجالات الدولة الداخليين، والرعاية العربية – والامريكية الوارثة للاستعمار القديم- سوّت امور الصلح والاصلاح بعد نحو 6 اشهر من “الثورة” باختيار الرئيس – المؤسس الثاني لدولة لبنان المؤسسات والقانون، الرئيس فؤاد شهاب !!
اعود معتذرا عن هذا الاستطراد القصير، لأؤكد ان احداث التاريخ توحّد كما هي تمزق، تبعا للكتابة التاريخية ومنهجيتها ومراميها وغاياتها؛ ويومها قلت، واكرراليوم : “اذا كان من مسوّغ للخروج على الموضوعية التاريخية فهو المسوغ الوطني، الذي يخفف الوقع هنا ويركز العبرة هناك، لاعداد اجيال وطنية متعاضدة متحابة واشهد اني وجدت في تاريخ جبل عامل، الغائب او المغيب، خير وقائع وحقائق وطنية، تخدم الغرض من الوجهين: استحضار تاريخا لبنانيا عامليا غائبا، وهو بنفس الوقت يعبر عن حس وطني تلقائي عفوي.
من تلك المقالة، ومخزوني التاريخي استحضراليوم واقعة حقيقية يشهد لها كل اللبنانيين، المتصارعين يومذاك: الدروز والموارنة.؛ وهي حسْن وفادة شيعة جبل عامل للمسيحيين الهاربين من جبال الشوف إبان الفتن الاهلية.
في الكتابة التاريخية لتلك الاحداث التي شاءت طوائفها الا تغيب عن التاريخ، اطنب الكتّاب في عزو الأسباب لمداخلات باشاوات وولاة السلطنة العثمانية الاسلامية، للإيقاع بين السكان المتداخلين المتجاورين، لتسهل السيطرة على الطرفين مع تجاهل الكتاب والمؤرخين الظروف الاجتماعية والمذهبية والتحولات السلطوية والاستيطانية- نوعا ما- والارساليات والحمايات الاجنبية، التي كانت تفعل فعلها، وتنبئ بالانفجار. وكان الصدام مرة وثانية وثالثة، قبل تدخل الدول الخمس الكبرى لتوليد “متصرفية جبل لبنان” وضمانتها عام 1860. ولأمر ما، لم يُقل يومها: “حروب الآخرين على ارضنا”.
وكانت مداخلتي التصحيحية على هذه الوقائع: لنفي مصائب الطائفية العمياء، لماذا غيّب الكتاب والمؤرخون موقف الشيعة العامليين – المسلمين، الذين استقبلوا اخوانهم في الانسانية او الوطنية، المسيحيين، وحموهم واكرموا وفادتهم ، على ما كان بينهم من معارك ووقائع سالفة في كفررمان وحارة صيدا وغيرها.
هذا الموقف العملي المثبت للمسلمين الشيعة ينفي بالملموس تعميم الصراع الاسلامي المسيحي في المنطقة، وهو طالما تكرر في مطارح ومواقع اخرى حتى اليوم، فهو يثبت انه فيما كان مسلمون يهاجمون مسيحيين في قاطع ما، كان مسلمون آخرون ينجدون المسيحيين في مقلب آخر، فينتفي الخلاف العام ويمسي جزئيا فئويا لا عاما، من رعاع وقطّاع وتنبني احدى ركائز الوطنية اللبنانية بعد وجهها الانساني.
ويسعدني ان انقل تعليقا موافقاً للزميل الصديق د. عصام خليفة على مقالتي تلك، في اجواء اتفاق الطائف، قال: مقالتك في “الدفاع الوطني” موضوعية معتبرة! توقّف امامها زملاؤنا في قسم التاريخ، الفرع الثاني – الفنار، وتناقشنا فيها ملياً ايجابا! وبادلته الاعجاب الموضوعي وقلت: التاريخ يمزقنا والتاريخ يصهرنا المهم الاخلاص الوطني في التدوين!
*غدا حلقة ثانية