كان لنا “بيت صامد بالجنوب” ..وسيبقى !(واصف عواضة)
كتب واصف عواضة – خاص الحوارنيوز
كان لنا بيت جميل في الجنوب صمد طويلا في مواجهة العدوان ، لكنه خرّ صريعا وبالضربة القاضية ،لأن العدو لا يحتمل رؤية الجمال.
كان لنا بيت في بلدتنا الجميلة الوادعة ،رفيقة البحر وجارة فلسطين ،دمر العدو أركانها،لأن العدو حاقد على الجمال والوداعة.
كان لنا بيتان في الناقورة ،واحد قديم وآخر جديد ،يختزنان كل ذكريات طفولتي وشبابي وهدوء تقاعدي وراحة سنيني،هشّم العدو عمادهما ،لأن العدو لم يرد لنا يوما الراحة،فقتل أطفالنا وشبابنا وزعزع حياتنا وراحتنا.
كان لنا بيتان جميلان في الجنوب تحيط كلا منهما حديقة غناء ، واحدة في بيتنا القديم زرعها والدي بأشجار الليمون والأكيدنيا والأفوكا والزيتون، وتفننت شقيقتي برفدها بكل أنواع الزهور والرياحين ،والحديقة الأخرى في بيتنا الجديد لعبت في ثناياها الفنانة الإختصاصية الصديقة فاطمة خليفة بكل حب ومودة، وشقيت زوجتي بغرسها بكل أنواع الخضار والفواكه فأكلنا من نتاجها كل ما لذ وطاب.
فيا لهفي على تعب والدي وشقيقتي وزوجتي!
بيتنا العائلي كانت تظلله شجرة التوت التي ملأت شهرتها الآفاق يوم التحرير عام 2000 .عمرت أكثر من ستين عاما ،وكانت تجمع شملنا آخر الأسبوع،وما زارنا صديق أو زميل إلا واحتشدت في ذاكرته .لم يتحمل العدو صمودها فجرفها من الجذور وألقى برفاتها على القارعة.
في بيتنا الجديد الذي كان صامدا في الجنوب ، الذي بنيناه طوال عشر سنوات ودمره الاحتلال في ثوان،دُفِنت تحت أنقاضه تحفة موسيقية عزيزة على قلبي،هي آلة “العود” التي لطالما لعبت أناملي طويلا على أوتارها بكل ما لذ وطاب من عيون الطرب القديم.. هو عودي الذي ينوف عمره على أربعين عاما، والذي على أنغامه كانت إبنتي وحبيبتي الراحلة ديما،ترنّم أغنية “أنا في انتظارك” وهي في عمر الأربع سنوات.
سامحيني يا ديما لأنني نسيت أن أنقذ العود من تحت سنابك خيل الاحتلال.
في حديقة بيتنا الذي كان صامدا في الجنوب تعلم حفيدي الصغير واصف كيف يحبو على أعشاب الحديقة ،لكن الحرب حرمته من أن يخطو خطواته الأولى في أطرافها.
بيتنا الجديد الذي كان صامدا في الجنوب ،لم يُتح لوالديّ أن ينعما بفيئه،لأنهما رحلا عن هذه الدنيا قبل ذلك.أكاد أحسد والديّ أنهما رحلا عن هذه الدنيا من دون أن يشهدا أطلال بيتينا ،القديم والجديد.
على جانبي بيتنا قام منزلان جميلان أيضا لشقيقي زوجتي هاشم وحسن هاشم ،فكانت بيوتنا الثلاثة محط الأنظار.رحل الشقيقان في اوائل أيام حرب الستين يوما.قلت لمن يواسيني في تدمير البيوت الثلاثة:لقد رحل الغوالي البشر.. فلن نأسف على الحجر.
كل ذنبنا في الجنوب أننا جيران فلسطين،عاش معها آباؤنا وأجدادنا حلوها ومرها،وعايشوا نكبتها،وظل جيلنا وفيا لها.
ولبيتنا الصامد في الجنوب حكاية قديمة تستحق أن تروى،وهي كادت تضعني في عالم الطرب والغناء بدلا من عالم الصحافة والإعلام.
كنت في السابعة عشرة من العمر عندما بدأ برنامج ستوديو الفن مسيرته عبر شاشة تلفزيون لبنان ،وكان الفنان الكبير وديع الصافي قد أطلق أغنيته الشهيرة “الله معك يا بيت صامد بالجنوب”، فحفظناها عن ظهر قلب ،وصارت بالنسبة لنا أنشودة تنافس النشيد الوطني.
أزعم أن صوتي كان جميلا ،وقد تمرن على قراءة القرآن الكريم ومجالس العاشوراء في الضيعة والجوار،فضلا عن أغاني المناسبات السعيدة كالأعراس والحفلات وغيرها.
ذات يوم تجرأت على اقتحام مبنى تلفزيون لبنان في تلة الخياط ،ووقفت بجرأة أمام المخرج الراحل سيمون أسمر في امتحان حيث لم يجرؤ آخرون .أسمعته مقطعا من “يا بيت صامد بالجنوب”. لفت صوتي انتباهه،فبادرني :أسمعني بيت العتابا في الأغنية.أطلقت حنجرتي على مداها ،فاهتز الاستوديو بمن فيه:”على الله تعود بهجتنا والفراح/ وتغمر دارنا البهجة والفراح..”.
وقبل أن أكمل قاطعني سيمون أسمر قائلا: بيكفي ..بيكفي.اليوم الجمعة ،الجمعة المقبل بتطلع على مبنى التلفزيون بالحازمية لتسجيل الأغنية في البرنامج ..بعتقد مستقبلك فن وغناء وطرب ..”
خرجت من مبنى التلفزيون في تلة الخياط مزهوا ،ورجعت إلى بيتنا الصامد في الناقورة ،ولم أعد إلى الحازمية ،لا الجمعة المقبل ولا في أي جمعة . لعلي تهيبت الموقف أن أصبح مطربا ،وأنا إبن المزارع البسيط من ضيعة نائية ،وبالتالي كنت حينها “شيخ الضيعة” المعروف بقراءة القرآن ومجالس العاشوراء.لكن تلفزيون لبنان ظل في خاطري،فاقتحمت مبنى الحازمية بعد عشر سنوات وتقدمت لامتحان المذيعين ،وبدل أن أكون من نجوم الغناء، صرت واحدا “نجوم الأخبار” ،وتدرجت في مراتب التلفزيون على مدى 37 عاما.
مات وديع الصافي ولحقه بيتنا الصامد في الجنوب..لم يبق منهما إلا الذكريات.
اليوم تعود بي المخيلة سنوات طويلة إلى الوراء ،ويلعب في مخيلتي كل شبر من زوايا بيتنا القديم وبيتنا الجديد،حيث لي مولد وموطئ قدم أو لمسة يد أو قيلولة هانئة.
أعرف أنني لست وحدي من كان له بيت صامد في الجنوب.كل منازل ضيعتنا ،إما سويت بالأرض أوتضررت بفداحة.لا أعرف مثيلا لهذا الحقد الأعمى على البيوت الصامدة في الجنوب وغير الجنوب.
اليوم عاد أهالي الناقورة زرافات ووحدنا.تفقدوا بيوتهم المدمرة.كانت لهم مثلي، بيوت صامدة في الجنوب .الكل أقسم على أطلالها، أنهم سيعيدونها أجمل مما كانت،فالجنوب محراب صلاتنا ومنبر حياتنا.
آلاف البيوت جرفها الحقد الأعمى بآلته المدمرة،وأخذ معها خيرة ناسها. تراني أعزي نفسي فأقول :لا أسف على الحجر بعدما ذهب البشر.لست آسفا على الحجر بعدما ذهب أشرف الناس وأكرم الناس وأطهر الناس.
لا أعرف إذا ما كنا سنعيد بناء بيوتنا من جديد،لأنني لا أعرف كم من الزمن ستصمد بيوتنا مستقبلا في ظل هذا الجار الثقيل الوطأة الرابض على قلب فلسطين.
لكننا باقون، وسيبقى لنا بيت صامد في الجنوب،ولن نبكي على الأطلال .وسنبقى نردد مع الشاعر الصديق الراحل حسن العبد الله والفنان مارسيل خليفة:
صامدون هنا..صامدون هنا
قرب هذا الدمار العظيم..
وإلى آخر نفس!