قلب العاصمة ينبض بأهل الجنوب
الحوار نيوز – صحافة
تحت هذا العنوان كتب جمال غصن في صحيفة الأخبار اليوم:
عادة ما تتميّز المدن والعواصم بتنوّع شعوبها. لا ترى الشخص نفسه مرّتين متى نزلت إلى الشارع. هذه بيروت اليوم، يندر أن ترى الشخص عينه مرّتين متى خطوت خارج مبنى سكنك. المشهد جميل لولا أن في خلفيته عدواناً همجياً أميركياً – اسرائيلياً على لبنان. بيروت، اليوم، تعجّ بالناس والأمل. الأمل بالعودة إلى الدار هو أدنى حدود الأمل عند الناس، حتّى لو كانت الدار ركاماً، فما بالك بأعلى حدود أملهم. «راجعين، راجعين»، قال طفل نازح في إحدى مدارس رأس بيروت. لكن، إلى حين «الرجعة»، كيف يعيش هو وغيره ممّن هجّرتهم آلة الإبادة الأميركيّة – الإسرائيليّة؟ في رأس بيروت، وفي الحمرا تحديداً، ضيوف النزوح بخير، بل بأحسن ما يمكن توقّعه في هذه الظروف. طبعاً، النزوح مرسومٌ بحبلٍ طبقيٍّ بامتياز. فهناك من ترك الدار إلى أفخم منها في العاصمة، وهناك من اقتات على الفتات في صفوف مدارس تعيد ذكريات العذاب والقصاص والفروض. الاحتياجات كثيرة في أماكن الإيواء في الحمرا، لكن المحبّين والمتطوّعين أكثر ويقومون بالواجب حتّى الآن. لا يمكن التنبؤ بمآل تطوّر اندفاعة النخوة هذه، لكنّها حتّى الآن تبشر بالخير.
المباني السكنية للسكن
في تمّوز 2006 افترش النازحون حديقة الصنائع مقابل مقرّ وزارة الداخلية والبلديات (التي اكتفت بالتفرّج على المشهد) ومرائب السيارات في الحمرا، لكنّ في حرب طوفان الأقصى لم يبقَ أحدٌ من دون سقف في رأس بيروت، رغم أنّ وزارة الداخلية والبلديات لا تزال تتفرّج على المشهد، أو ليتها تتفرّج فقط. إذ شهدت الأيّام الأخيرة جهوداً لقوى الأمن الداخلي التابعة لوزارة الداخلية لقمع محاولات الإسكان القسري في مبانٍ مهجورة منذ أزمانٍ في رأس بيروت. فشلت جماعة تصريف الأعمال بطبيعة الحال ونجحت «قوى الأمر الواقع» الموجودة على الأرض بإشغال مئات الغرف الفارغة منذ دهر بآلافٍ من السكّان النازحين مؤقتاً من أرياف لبنان إلى عاصمته. امتلأت المباني وعجّت الطرقات بالمشاة، فعادةً ما تميّز المدن أرصفتها المكتظة وشوارعها المزدحمة. هكذا باتت بيروت في زمن النزوح المؤقت. يقال إنّ منطقة الحمرا آوت مئة ألف من الـ 500 ألف نازح من المنطقة التي تصل جنوب بيروت بشمال فلسطين. رغم ذلك، تبقى هناك مساحات في رأس بيروت ووسطها مؤهّلة لاستيعاب أضعاف ما استوعبته منطقة الحمرا. فهناك سدّ الأبراج الممتدّة على الواجهة البحرية للعاصمة مانعة عنها نسيم البحر، وهي بغالبيتها الساحقة تسكنها أشباح المضاربين العقاريين. وهناك على الخطّ نفسه حرم الجامعة الأميركية التي تتباهى بعدد كليّاتها وغرف تعليمها التي فرغت وباتت تشبه حرمها الشهير في قبرص الذي فشل في استقطاب طلّاب العلم هناك. وهناك مشروع إعادة إعمار وسط بيروت الذي نجح في بناء السقوف لكنّه فشل في بناء فرن مناقيش أو مقلى فلافل واحدٍ في المساحة الممتدّة من كليمنصو إلى الجمّيزة، ومع ذلك استُكثر عراء بؤرة في الصيفي على بعض النازحين فتدخّلت قوى الأمن لإبعادهم قبل شروق الشمس.
بيروت لا تجوع
امتلأت غرف تعليم المدارس الحكومية وبعض المدارس الخاصة في رأس بيروت بعائلاتٍ نازحة من خط النار الإجرامي المنبثق من الجنوب، لكن لم ينجح حتّى الآن أي من المبادرات، لا الحكوميّة ولا الخاصة، في تغطية كامل حاجيات إيواء هؤلاء. الجهود التي تبذل من قبل سكّان بيروت تثبت أنّ بيروت عاصمة للدولة حتّى لو لم تتبلور حدود هذه الدّولة بعد. قد تنقص الفرش والمياه والكهرباء، لكن الأكيد أن أحداً لا ينام جائعاً. مقهى «تاء مربوطة» الذي نشأ في حرب تمّوز 2006 فتح مطبخه المركزي مرّة أخرى لخدمة النازحين بعد 18 عاماً على معموديته. لكنّه ليس وحده، إذ تضافرت جهود مقاه ومطاعم أخرى، مثل «رصيف» و«مزيان» و«تحت الشجرة»، ويتمّ التنسيق في ما بينها لتوفير الوجبات لحوالي 2000 شخص (والرقم يزداد مع ازدياد التبرّعات). لكنّ ليس كلّ من نزح يحتاج وجبات مجانية، فهناك كثيرون من الميسورين الذين ملأوا المقاهي والمطاعم، وبعضها يوفّر عروضاً خاصة للنازحين. أكثر الأماكن التي تعجّ بالناس هي أفران المناقيش. يتدرج سعر المنقوشة، المدرجة على لائحة اليونسكو للتراث غير المادي للبشرية، من 30,000 ليرة عند «الغلاييني» إلى دولارات عدّة عند إحدى «الفرنشايزات» التي تقتبس اسمها من مكوّنات الوجبة الراسخة في الهوية اللبنانية.
الاحتياجات كثيرة في أماكن الإيواء في الحمرا، لكن المحبّين والمتطوّعين أكثر
بعد أفران المناقيش تحل مواقف السيارات في المرتبة الثانية من حيث الاكتظاظ. السيارات مركونة على جانبي الطريق في كل طريق رئيسية أو فرعية في كل رأس بيروت، وحتى على الأرصفة. رجلان مسنّان يتبادلان الحديث حول فوائد «المشي والحركة» لأن تحريك السيارة من مكانها مغامرة غير محسوبة وتعني قضاء نصف نهار بحثاً عن موقف آخر بعدما تحولت بيروت، بشوارعها وأرصفتها، إلى «باركينغ» ضخم، ما يجعل حتى المشي مغامرة أيضاً. ما من زاروب يخلو من صهريج مياه وسط الطريق يفرغ حمولته، فيما تبخّر شرطيو السير تماماً.
صهاريج المياه المذكورة قد تكون الأكثر إزعاجاً، على الأرض. لكن ضجيج أهل المدن المتداخل يعتبر من الأصوات التي تريح الإنسان بشكل عام. وهناك فيديوهات على «يوتيوب» مدتها ساعات لضجيج مدن لمساعدة الناس على النوم. إنه دليل عافية في المدن. في حالتنا اليوم هي ليست كذلك. لكن إلى حين عودة العافية إلى جنوبنا وعاصمتنا، ألف مرّة صراخ الأطفال في ملاعب المدارس ولا مرّة أزيز «أم كامل».
عجز أو تقصير؟
رغم تضاعف عدد سكان رأس بيروت لا تزال بعض الخدمات العامة تعمل بوتيرة ما قبل أزمة النزوح، أبرزها خدمة جمع النفايات من مستوعباتها. جدول جمع النفايات في رأس بيروت لا يكفي لتغطية الارتفاع الطبيعي في كمية النفايات. إذ تطفح معظم المستوعبات بأكثر من سعتها ساعات طويلة من الليل والنهار مع ما لذلك من تداعيات صحية. فهل الشركة الخاصة الموكلة جمع النفايات عاجزة عن زيادة سعتها التشغيلية، أم أنها قادرة لكنّها لا تريد أن تعمل ببلاش؟
المجتمع المدني كما يجب أن يكون
«ماذا يمكننا أن نفعل؟» هو السؤال الذي يتردد كثيراً على لسان أفراد ومجموعات من الشباب المتحمس للمساعدة وجهات حزبية منظمة هي الانشط على الأرض، بينما غاب «الانسانيون» الأجانب الذين ركبوا الطائرات للعمل «عن بعد». مؤسسة الرعاية الصحية والاجتماعية منتشرة في كل مكان، وهي مؤسسة معروفة التوجه السياسي. صناديق تمويل الاستعمار الغربي هي من قال إن المجتمع المدني يجب أن يكون غير مسيّس. المجتمع المدني يعني فقط أنه «غير حكومي» ولا يعني أبداً أنه يجب أن يكون مسلوخاً سياسيّاً عن شعبه ومحيطه.
سوق العرض والطلب
تتأقلم سوق الحمرا تاريخياً مع المتغيرات الاقتصادية في المدينة والبلد. «أيام السواح الخليجيين» كان بين الجوهرجي والجوهرجي محل بخّور. عندما تخرّج جيل دبي والكومباوندات السعودية من مدارسهم وباتوا الأكثرية بين الجسم الطلّابي في الجامعتين الأميركيتين اللتين تحدان الحمرا، نبّتت الحانات في شارع المقدسي ومتفرعاته لاستيعاب قدرتهم «الشرائية». عندما عتّمت الأزمة الاقتصادية شارع الحمرا، اشتغل سوق الظلام. غير أن كلّ الأعمال المتعلّقة بهذه السوق الأخيرة اختفت فجأة بسحر ساحر، كونها لا تناسب المرحلة.