قطع الطرقات: الذاكرة المُستعادَة
كان الاتحاد العام لعمال فرنسا (CGT) وهو في عزI قوّته، حين يقوم بإضراب عام، يسعى لشلّ الحركة في عموم فرنسا، لكنّ الشركات الكبرى كانت تستعصي عليه، وهي عصب أساسيّ في الاقتصاد الفرنسيّ، لاحتواء مكاتبها على المئات من الموظفين، فسعى لتطويعها، محللا نقاط ضعفها، فاكتشف أنّ نقطة الضعف الأساسيّة فيها، هي عمّال صيانة المصاعد، وحجّاب الأبواب الخارجيّة، فإذا كانوا مع الإضراب العام، بإمكانهم شلّ عمل تلك الشركات، من خلال إيقافهم المصاعد، وإقفال أبواب الشركات، وهكذا كان.
قطع الطرقات في لبنان، مرتبط ارتباطا وثيقا بذاكرة الحرب الأهليّة، لدى جمهور واسع من اللبنانيين، فهو يعود بهم بالذاكرة، إلى المرارة اليوميّة التي عانوا منها، حين كان العبور بين شطري المدينة (بيروت) محفوفا بكلّ صنوف المخاطر، والمهانة، والعذاب، أو الخطف بحسب الهويّة، وصولا إلى الموت، ومن لم يعش تلك اللحظات المرعبة، فقد يكون في ذاكرته أحبة باتوا اليوم ذكرى، نتيجة عبورهم بين الشطرين، أو من منطقة لبنانيّ نحو ثانية.
كما أنّ قطع الطرقات لدى الجنوبيين يربط ذاكرتهم بالاحتلال الاسرائيليّ، عملائه، ومعابره التي أذلتهم حوالي عقدين ونيّف من الزمن، لغاية ما اقتلعته المقاومة، لكنّهم، خلال تلك الفترة، عانوا كثيرا من ساعات الانتظار الطويلة، في الشمس الحارقة، وفي الانتظار، ومن البرد القارس، والتفتيش المهين، ومن مزاجية المحتلّ وعملائه، أو من ردهم على أعقابهم من حيث أتوا، بعد انتظارهم لساعات طوال، أو ناموا على حوافي الطرقات بانتظار فتح المعابر، وكانوا في كلّ عبور كأنّهم وُلدوا من جديد، ومنهم من سيق أثناء عبوره إلى المعتقلات وقضى سنين عزيزة من عمره.
قطع الطرقات وسيلة استخدمتها القوى السياسيّة الحاكمة بوجه بعضها البعض منذ سنة ٢٠٠٥، غايتها تحسين مواقعها السلطوية، كانت قادرة على حمايتها، ،جمهور كلّ طرف مارس تلك الوسيلة كان مقتنع بها، قادر على حمايتها ولو كلّفت دماء، لكنّها كلّفت البلاد الكثير، وما نعيشه من أزمات هو واحد من نتائجها.
قطع الطرقات ليس عملا تقنيًا بحتا، هو وسيلة من وسائل الضّغط الشعبيّة، لكنّه ليس غاية بذاته، فإذا لم تكن مقاصده واضحة للنّاس ومؤيّدة له، سينقلب عندها سلبا على القاطعين، كما يحصل اليوم، وتضيع الغاية منه، وتبقى الإشكاليّة المطروحة على دعاة قطع الطرقات هي مدى تأثيره على السلطة الحاكمة؟ هل سيجعلها تقدّم تنازلات؟ الأيام بيّنت عكس ذلك، وانعكس سلبًا على القاطعين، مفاد ذلك، التفتيش عن وسيلة مختلفة للضغط لها مفاعيل وتأثيرات على السلطة وليس على النّاس.