قصة رجل في زمن الإقفال
كتب حيدر شومان:
…ونظر إليّ بشيء من الحيرة وكثير من الخوف والذلة وقال:
"ستقفل البلاد أسبوعين كاملين، ولا أملك ما يسدّ رمق أسرتي ليومين، وليس لي من صاحب أو قريب يجنّبني الفاقة حيث تأسرنا الحكومة خمسة عشر يوماً في البيوت… لقد كابدت في بلاد الاغتراب ثلاثة عقود، وعدت إلى وطني لأستردّ أماناً طالما فقدته، وأرضاً حلمت طويلاً أن ألوذ فوق تربها الناعم، وأهلاً أعيش في كنفهم هانئاً مستقراً، فسرقتني المصارف بعد عودتي، ووقعت أسير الخوف في وطني وهجرني الأهل والأصحاب… ".
"ألا تستطيع السفر مجدداً؟ "…
"كما سرقت المصارف أموالي فقد سرقت الغربة سنيّ عمري وشباباً ضاع في زحمة أحداث الزمان… لن ترحّب الغربة بالشيخ الكبير كما رحّبت بالشاب اليافع، ولن يحضنك الغرباء بعد أن نبذك الأقرباء…".
"يا ليتني أستطيع حمل شيء من أثقالك ولكن…".
"لو كنت أعلم أنك أيسر حالاً مني لما شكوت لك أمري. ولكن أقدّر لك اهتمامك على أي حال… إذ نحن في زمن كثر فيه الأوغاد وقلّ فيه الطيّبون"…
"كيف ستواجه الإقفال العام؟"
"رئيس الحزب هو المرتجى… سأقصده، ولن يخيّب رجائي… لقد آمنت به منذ اندلاع الحرب الأهلية مشروعاً يحاكي تطلعاتنا كمجتمع ومذهب، وحلمت معه بلبنان آخر متحررا من كل جامد تقليدي بغيض، ولقد كانت كلماته تغذي أرواحنا فترسلها إلى عالم حقيقي واعد بعيدا عن الكذب والأوهام والترهات… كنت عضواً في الحزب قبل سفري، وبقيت على تواصل معه بعده، ولطالما قمت بواجبي في تقديم الاشتراكات المالية السنوية والفصلية، وأزور لبنان أثناء الانتخابات كي أسهم في فوز رجالاته في البرلمان، ثم وزراء في الحكومة، وكنت سعيداً عند كل فوز يرفع الحزب ورئيسه ويرفعنا معهما لبلوغ ما نتوخّاه في وطننا الحبيب".
"ألا زلت تؤمن بالأحزاب بعد كل وصلنا إليه؟ … ألا زلت تؤمن بزعمائنا الاقطاعيين الذي سرقوا البلاد وأوصلوه إلى حافة الانهيار؟ ".
"ليس الكل سواسية أبداً، ولا يمكن أن تقارن الوطني بالعميل، والصادق بالكاذب، وبمن نذر نفسه لخدمة أهله وناسه بذلك الذي يسرق الوطن والأحلام… لست طائفياً ولا مذهبياً لكن الأمر الواقع في لبنان يفرض عليك أن تنتمي لأبناء جلدتك وتحصر وجودك ووجدانك في حيّز ضيق لا يمكن أن يستوعب الآخر، وقد تجد نفسك حاملاً سلاحك وتقاتل بشراسة في سبيل هذا الحيّز… وقد تجد نفسك عدواً لآخر لا تعرفه ولا تكرهه وما يجمعك به أكثر بكثير من ما يفرّقك عنه… هذا هو واقع لبنان الذي لا يمكنك تجاهله حتى وإن لم تكن مقتنعاً بصوابيته، ولا يمكنك الفرار من أتونه حتى وإن أدركت أنه قاتلك… صحيح أن الحرب فُرضت علينا وجُررنا إلى بلائها جراً، لكننا وصلنا إلى نقطة اللاعودة، فإما مواجهة الأمر المحتوم وخوض ما لا تحبه نفسك وإما الاستسلام والخنوع والهروب إلى جهة مجهولة لا عنوان يحددها"…
"وأين الصواب في ذلك إن افترضنا أن الجميع يؤمن بمقولتك".
"ومن قال أن الصواب هو الغاية، ومن قال إن الحقيقة تكمن عند جهة دون أخرى؟ ومن قال إن القيم والمثل والأخلاقيات يجب أن تُطبَّق في هذا العالم المزيّف؟ لقد أضعت حياتي على قارعة الزمان الداكنة لأترك لأولادي شيئاً يعيشون من خلاله في دائرة من الأمان الأبيض، ولقد انهارت كل الأحلام في ساعة غفلة سوداء مريبة… وأين العدل في ذلك؟ قد يكون الحل لمشكلتي أن أسلك درب الانحراف فأسرق أو أقتل لأعوِّض خسارتي، وإذا ما فُضحت صرت منحرفاً مجرماً مصيره السجن والضياع… وأين العدل في ذلك؟ سأطرق باب ذلك الرجل الذي أرى أنه الأمل المتبقي في سرداب حياتي البائسة، ولا يمكن أن ينكر رجائي أو يرد خطابي، ولا يمكن أن تخيّب أملي أحلام عشت في كنفها سنوات طوالاً… لم يبقَ في حوزتي إلا شيء من ماء الوجه لن يضيرني بذله لأحمي عيالي من الجوع ونفسي من الهوان وروحي من الضياع… سأقصده غداً وسأجد عنده مطلبي، ولا شك أن بابه مفتوح لأمثالي من الذين أخلصوا له عمراً بأكمله، ولن يضيّع عمري سدى لمطلب حقير لا يكاد يكون جزءاً بسيطاً من ما قدّمته له وللحزب من قبل…
واستيقظتُ في اليوم التالي على جلبة شغلت البلد وأهله مفادها أن الزعيم الفلاني تعرّض لعملية اغتيال نجا منها بأعجوبة، وهو بحال جيدة كما عناصره المولجون بحمايته. وتمّ القبض على الجاني وهو رجل خمسيني تابع لمخابرات إسرائيلية حاول تنفيذ مخططاتها لزرع الفتنة في البلاد وإرباك الوضع القائم الذي يعيشه أهلها…