بقلم عمار مروه* – الحوار نيوز
كان يا ما كان، رجل غني وتعيس بلا اي تناقض . رجل عرفته جيداً منذ الطفوله وخلال كل مدة الدراسه الابتدائيه والثانويه، وافترقنا بالسفر بعد تخرجنا من الجامعه .
كان صديقي القديم يحيى دائماً بلا أي أمل في غد جميل سيطلع عليه يوماً، بمعنى يمكن ان يكون جديراً بالحياة . بدا لي دائماً تعيساً كممثل هزلي فاشل يخرج من قصص تراجيديا الادب الأوروبي، ليحيى كما يقول سكان جبل عامل “كان من قِلَّة الموت” !.
حلم ذات مرةً حلماً حقيقياً بانه مات . كان الحلم عميقاً وبضاً لدرجة اعتقد عندما استيقظ انه مات فعلاً !. هاله الأمر كثيرا. لدرجة لم يستطع احتمالها . عندما استيقظ فقدَ ذاكرته تماماً ولم يعد يذكر لا اسمه ولا عائلته واهله ولا اي شيء او احد اخر إلا أنا ..ولسبب لا يعلمه غيري .
عندما فاجأه الجوع اول مره لم ياكل الا البطاطا، علماً ان ثلاجة المطبخ كانت تحوي الكثير من المأكولات الفاخره التي يطهيها لهم طباخ البيت .
عندما اكل البطاطا لاول مره وجدها لذيذة جدا لدرجة انه اعاد ملء صحنه بها ثلاث مرات، علماً انه كان لا يشتهيها مطلقاً ولم يأكلها ابداً في حياته لاعتقاده انها طعام الفقراء. اكلها إذن لاول مرة بشهية عارمة واصبحت منذ ذلك اليوم طعامه المفضل .
صدف عند خروجه الاول من منزله سائراً ليبحث عني على غير هدى، انه تعرف على أمرأه جديده احبها مباشرةً ومن النظره الاولى . طلب منها الزواج فوراً ، اعلمته انها زوجته الاولى وانهما كانا تخاصما منذ زمن بعيد جداً لاسباب تافهه واتفقا على الطلاق . تزوج وطلّق بعدها مرات عدة، واستقر مع امرأته الاخيره التي تزوجته لماله، وكانت تصغره بثلاثين عاماً .
غضبت زوجته الاخيره وهجرته فوراً ،لانه لم يعد يذكرها ولا يطلبها، لا بل شعر بنفور قوي وفوري منها . تركها ترحل دون ان يفهم شيئاً ، ليعود اولاده من زوجته الاولى يحبونه . أخذوه بفرح الى بيته الاول حيث يسكنون مع امهم ، ولما سألهم عن اسمائهم تعجّبوا وسألوه : كيف تنسى اسماءنا وانت من اختارها !!! .. وعندما ألحّ عليهم اكثر في السؤال عنها ذكروها له، ليعلم عندها انه رجل يحيى بحلم قديم لم يكن يستحقه يوماً . حمد ربه على النعمه الاولى واقسم الا ينام بعدها الا على مخدة ذلك الحلم ،ولا يلتحف الا حياته الجديده القديمه الاولى .منذ يومها وهو يفرح لسماع اغنية السيدة فيروز ” اسامينا شو تعبوا اهالينا تلقوها “.
اصبح كلما جلس للطعام يستطيب اكل البطاطا ويمضغها بلذة عارمة وهو يستمتع بسماع أغنية الصبوحة ” عالبساطة البساطه” ويضحك من اعماق قلبه كلما ذكرت صباح كلمة ” بتطعميني بطاطا ” . وبذلك اصبحت الطبق الرئيسي على مائدة عائلة صديقي الذي عاد يدعوني دائماً لزيارتهم ،ولم يعد يأنس بأحد الا عائلته الاولى وصديق عمره “.
فرح الجميع بما حدث وصارت حياتهم جميله وممتلئة بالرضا، فأقبلوا عليها بحب ومتعة، لم يكن احد ليفهمها الا هو الذي تمسك بها بقوة ورفض ان تعود اليه اي ذاكرة اخرى .
وحدها زوجته الاخيره لم تعد تجد نفسها في حياته، ولم تعد قادره بالتالي على ان تحلم، وفقدت حياتها من اي معنى فماتت بعيدة من شده التذكُّر .
*الاهداء الى الصديق الروائي هاني نقشبندي