قضاء

قراءة قانونية لتطورات إنفجار المرفأ في زمن التَّخبط والضَّياع(عادل مشموشي)

بقلم العميد المتقاعد عادل مشموشي

 

كان الله في عون الشَّعب اللبناني، لأن الطغمة الحاكمةَ ليست ملهيَّة بالنكايات والمماحكات فقط ، بل للأسف هي من أعلى رأسها إلى أسفل قدميها غارقَةٌ في وحولِ الجَهالةِ والغباء، وهذا ما يُفسِّرُهُ عجزُها وتخبطُها في قراراتها، والتَّفرُّدُ والارتجالُ في اتِّخاذ قراراتٍ غيرِ مدروسَةٍ ولا مَحسوبَةِ النَّتائج، الأمرُ الذي يَتَسبَّبُ في جَرِّ البلدِ إلى مَزيدٍ من الأزماتِ والتَّعقيداتِ على كافَّةِ المُستويات.

التَّخبُّطُ السِّياسيُّ الذي نَشهدُهُ اليوم قلَّ نظيرُهُ في أردى الأنظمَةِ السَّياسِيَّةِ في العالم، لأنه سُرعان ما أودى بلبنان من دولةٍ ناميَةٍ إلى دولةٍ فاشِلَةٍ عاجِزَةٍ عن النُّهوضِ باقلِّ واجِباتِها، ويُردُّ هذا التَّخبُّطُ إلى قِلَّةِ الوَعي والغوغائيَّةِ وعَدمِ الإدراكِ لأبسطِ الأُمورِ وهذا ما تكشفُهُ تفاهَةُ المُقارباتِ المُعتمدةِ حِيالَ التَّحوُّلاتِ المَصيرِيَّةِ والمُستجدَّاتِ التي يواجِهُها البلد.

بدت بوادرُ التَّخبطِ مع الخِفَّة التي تحلى بها المسؤولون تجاه انفجارِ شُحنةِ نترات الأمونيوم في مرفأ بيروت، بإلاعلان عن أن كشف مُلابساتها سيتمُّ خلالَ خَمسةِ أيام، ولن يكون آخرُها ماثلاً في قرار مَعالي وزيرِ الدَّاخليَّة بعدمِ إعطاءِ الإذن بالمُلاحَقَةِ لمدير عام الأمن العام الذي أظهرَ حِكمةً في إعرابِهِ عن استِعدادِهِ للمُثولِ أمامَ القَضاءِ في حالِ اتِّباعِ الأُصولِ القانونيَّة، أي بعيداً عن مهاتراتِ الإعلامِ والإعلان.

قد يرى البعضُ أن للوزيرِ مُطلَقُ الحُرِّيَّةِ في رَفضِ طلبِ الإذنِ بالمُلاحَقَةِ وإن شاءَ فيبدي تَجاوبِا، ولكن يغيبُ عن بالهم أن السُّلطَةَ الاستِنسابيَّةَ ما هي إلاّ فُرصةً للمَسؤولِ الإداري “وهنا الوزير”، ليتمكَّن من تقديرِ المَوقِفِ بعد التَّحقُّقِ مما إذا كان السُّلوكُ المَنسوبُ للموظَّفِ قد ارتُكِبَ بسبب الوظيفَةِ أو بمعرضها أم لا علاقَةَ لوظيفَة به، وفي الحالةِ الإيجابيَّةِ للوقوفِ على ما إذا كان طَلَبُ الإذنِ بِحَدِّ ذاتِهِ يَنطوي على أسبابٍ مَشروعَةٍ ومُبرَّرةٍ بمُخالفتِهِ القانون أو لامتِناعِهِ عن القِيامِ بواجِبٍ مُقرَّر، أو يَستهدِفُ التَّعرُّضَ له والتَّطاولَ عليه بغيرِ حَق، بغَرَضِ الافتِئاتِ على الموظَّفِ والتَّنكيلِ به والاساءَةِ إلى سِمعَتِه، وفي الحالَةِ الأَخيرَةِ يَجوزُ رَفضُ الإذن وهذا ما كُنَّا نتمناه في أن يأتي رَفضُ الوزير للأذنِ بقرارٍ مُعلَّل.

كان أَجدى بالمَعنيين أن يَعوا أن التَّسرُّعَ في إصدارِ مِثلِ هذا القرارِ لن يَمُرَّ مُرورَ الكرامِ ،ولن يكون بمنأى عن أيَّةِ تداعياتٍ أو مَخاطِرَ سِياسِيَّةٍ أو أمنيَّة قد تَمَسُّ الوَطنَ بأسرِه، لأن حادِثَةَ انفِجارِ شُحنةَ نِتراتِ الأمونيوم دَمَّرتِ المَرفأ كُلّيَّاً، وأحدَثت دَماراً غير مألوفٍ، وأودَت بحياة المِئاتِ، ونغَّصت حياةَ ذوي الشُّهداءِ والمُصابين الذين ضاهى عددُهُم الخَمسةَ آلافِ جَريح، هذا بالإضافَةِ إلى الخَسائرِ المادِّيَّةِ والاقتِصادِيَّةِ الفادِحَة.

لقد فَجَّرَ طلبُ المُحقِّقِ العَدلي القاضي طارق البيطار ومن قبله القاضي فادي صوَّان قنبلة قضائيَّة، أصابت شظاياها السُّلطتين التَّشريعيَّة والتَّنفيذيَّة بإصابات في خواصرهما الرَّخوة مُحدثةً تلبُّكاتٍ مِعويَّةٍ حادَّة، ويُخشى من نزيفٍ داخلي خطير، قد يتسبب في التِهاباتٍ سياسِيَّة وفوضى أمنيَّة يُعيدان لبنان إلى حالةِ الانقِسامِ العامودي التي شهدها خلال السنوات الخمسة عشر الخوالي تحت مُسميات  8 و14 آذار والتي لم تندمل جراحُها بعد.

إن الانفجارَ المزلزل ذا المَفعول النَّووي أطاح عصفُهُ بما تبقى من مُرتكزاتِ الاستِقرارِ السِّياسي في لبنان، أمَّا دَوِيُّهُ فَصعَقَ بعضَ السِّياسيينَ الذين اعتقدوا لبُرهَةٍ من الوقت أن بإمكانهم أن يُشكلوا بديلاً موزوناً، إلاَّ أنَّهم سرعان ما انكفأوا عن المَعركةِ السِّياسِيَّة وتخلوا عن آرائهم الاصلاحيَّةِ، ورموا بأسلِحَتِهم واستسلموا من دون إعلانٍ بمُجرَّدِ أن صُوِّبت نحوهم بعض الطلقات الخُلَّبيَّة، ويا للأسف تحوَّلَت مناداتهم الإصلاحيُّة بالأمسِ إلى همساتٍ استِعطافيَّةٍ وربما عَويلاً استجدائيَّا للمُساعدة.

إن انفجارَ المرفا وإن كان سببُهُ المُباشِرُ حادِثٌ عَرضِيٌّ تَمَثَّلَ في عَملِيَّةٍ تلحيم موضِعِيَّةٍ لإحدى الفُتحات في جُدران عنبر التخزين، ألاَّ أنها تسبَّبت بحَريق هائلٍ، أدى لهيبُهُ إلى توليد حَرارَةٍ عارِمَةٍ وضَغطٍ هائلٍ أديا مُجتمعين إلى تفجيرِ أطنانِ نيترات الأمونيوم، فبدى مَظهرُ الإنفجارِ على شَكلِ قِمعٍ بُركاني وسَحابَةٍ نوويةُ الشَّكل. انفجارُ المرفا هذا وإن كان وليد صُدفَةٍ أو غفلةٍ، إلاَ أنه ربيبُ مُخطَّطٍ إرهابي جَهنَّمي، سَيان أكان ارهاب دَولَةٍ او إرهاب جَماعاتٍ إجرامِيَّةٍ تدعَمُها دُول. وهذا ما يدفعنا للتنبيه لتوخي الحذر وتجنُّبِ المَحاذير.

وكي لا تتوه العدالةُ في أتُّونِ الحَصاناتِ وأذُوناتِ المُلاحَقَة نَقولُ: إن انفِجارَ المَرفأ جَريمَةٌ قد يَسهُلُ كَشفُ مَعالِمِها، ولكن يَصعُبُ إدانَةُ ومُحاسَبَةُ الضَّالِعينَ فيها ومن يقِفُ وراءَها. وإن أُعلِنَت حَقيقتُها فَالخشيةُ أن تكوي كُلَّ من يقترِبُ منها. جريمةُ المَرفأ لا يَقتصِرُ ضحاياها على الشُّهداء وباقي المُصابين، ولا على من تَضرَّرت مُمتلكاتُهُم وهُدِمَت منازِلُهُم، إنما لبنان كلُّ لبنان كان ضَحِيَّة لها.

على المَعنيين أن يَعوا أن مَسارَ تَحقيقِ العَدالَةِ في هذه الجَريمَةِ النَّكراء سيكونُ محفوفاً بالمَخاطرِ ومليئا بالمَطبَّاتِ، وسَيواجِهُ المولَجونَ بِها الكثيرَ من المُعوِّقاتِ ومُحاولاتِ التَّعطيل، وسَيكونونَ عُرضَةً لتطاولٍ وإيحاءاتٍ غير مُحِقَّة. وعليه قد نرى تهديداتٍ علنيَّةٍ وأخرى مُبطَّنة باغتِيالٍ لمَسؤولينَ عن التَّحقيق، او للنَّاشِطينَ المُصرِّينَ على كَشفِ الحَقيقَة، ورُبَّما نَشهُدُ تَصفياتٍ لبَعضٍ من المُشاركين بالتَّنفيذِ، أي بعَمليَّتي الشَّحنِ وادخالِ الشُّحنَةِ الهائلةِ إلى لبنان والتغاضي عنها وإخفاءها ونقل بعض منها.

ولنَعُد الى مَسألةِ الحَصانات، والتي هي مَحلُّ أخذٍ ورَدٍّ وأضحت مِحوَرَ الكثيرِ من النِّقاشات، لنَقول، إننا نرى أن المُحقِّقينِ العدليين كليهما لم يجانبا روحيَّةَ المَوادِّ الدُّستورِيَّةِ في ما خَصَّ مُلاحَقَةِ الرُّؤساءِ والوزراء،  ورُبَّما تَسرَّعا في المُبادَرَةِ الى طَلَبِ استِماع بعضِهم بصِفَةِ مُدَّعى عليه، فبديا وكأنهما يُغلِّبانَ الشَّعبَويَّةِ على مَوضوعِيَّةِ التَّحقيق. وهنا نتَساءل، ألم يكن من الأجدى التَّركيزُ بادئ الأَمرِ على الجانب الأهم من التَّحقيق، ألا وهو كَشفُ المُلابساتِ التي تَكتَنِفُ مَصدَرَ الشُّحنَةِ وخَطِّ سَيرِها والجِهاتِ التي تقِفُ خَلفَها، ولِصالِحِ مَن شُحِنَت والوُجهَةُ النِّهائيَّةُ التي كان مُقرَّراً ان تُشحَن إليها (لبنان أم جهة أخرى)، هذا بالاضافَةِ الى تَحديدِ هَوِيَّةِ من سَاهَموا وسَهَّلوا كُلَّ ذلك، إلى كشفِ هويَّةِ من سَاهمَ مُباشَرَةً أو بصورَةٍ غيرِ مُباشِرةٍ  في ادخالِ الباخِرَةِ إلى حَرَمِ مرفأ بيروت، وإنزالِ شُحنَتِها وتَخزينِها في ظروفٍ غير مُلائمة، داخِلَ عَنبِرِ مُغلَقٍ مُخصَّصٍ لخَزنِ وإيواءِ الموادِّ الخَطِرَةِ كالموادِّ المُلتَهِبَةِ أو السَّريعَةِ الإشتِعالِ أو الأسلِحَةِ والمُتَفجِّراتِ والموادِّ الكِيماويَّةِ وألعابٍ نارِيَّةٍ رُبما تَحتوي على مُفرقَعاتٍ مُتفَجِّرة، من دون إغفالِ من أوعَزَ بتلحيمِ إحدى الفُتُحاتِ من دونِ مُراعاةِ تَدابيرِ الحِيطَةِ اللَّازِمَة.

نعم نرى أنه كان أجدى بالمُحقِّقِ العَدلي أن يُنهي إجراءاتِه واستِماعِهِ واستِجوابِهِ لغَيرِ المَشمولينَ بالحَصاناتِ، سَواء من لبنانيين وغير لبنانيين، سواء أكانوا يُقيمون في لبنان أم خارِجَه، ومن ثم يَعودُ لينصَرِفَ الى المَسؤولين المَشمولين بأيٍّ من الحَصاناتِ السياسِيَّةِ (دستوريَّةٍ أم نيابِيَّة) او قَضائيَّة أو إدارِيَّةٍ او مِهنِيَّةٍ أو نِقابِيَّة، فيَطلُبُ رَفعَ الحَصانَةِ عَنهُم أو الإذن بمُلاحَقتِهِم أو ملاحقتهم من المرجعِ الصَّالِح، ومن ثم له أن يَستمِعَ الى بعضِهِم مِمَّن لا تتوفَّرُ قرائنُ أو أدلَّةٌ يُستَشفُّ منها أنَّهُم مَسؤولون عن الجريمَةِ بصِفة شاهد، وإن تبيَّن له في مَعرَضِ استِماعِ افادَةِ أيٍّ منهم كشاهِدٍ وجودَ قرائنَ تدينُهُ يَعمَدُ إلى تبليغِهِ بوَقفِ استماعِهِ كشاهد،  على أن يَستجوبَه لاحِقاً بصِفةِ مُدَّع عليه، بعد رَفعِ الحَصانَةِ عنه أو الحُصولِ على إذنٍ بمُلاحَقتِهِ، وَفقَ الحِمايَةِ القانونِيَّةِ التي يَتَمتَّعُ بها.

ووفقَ مجرياتِ التَّحقيق وعلى ضوءِ النتائجِ التي يتوصَّلُ إليها المُحقِّقُ بنهايةِ التَّحقيقِ يُحدِّدُ المُحقِّقُ العَدليُّ السُّلوكِيَّاتِ والأفعالِ المُجرَّمَةِ المَنسوبَةِ لكُلٍّ من المُستَجوبين بصِفَةِ مُدَّعى عليه، ويُحدِّدُ من بينهم من يرى وجوبَ منع المُحاكَمَةِ عنهُ ومن تَخرجُ صلاحِيَةَ مُلاحقتهم عن نِطاقِ اختِصاصِه، ومن يرى وجوبَ شُمولَهُم بقرارِهِ الاتِّهامي، ويحدِّدُ التوصيف الجرمي المُلائم لكُلِّ مُتَّهم وفقاً لما هو مَنسوب له من أفعال، كل ذلك تهيئة لإحالةِ الملف أمام المَجلِسِ العَدلي للفَصلِ في القَضِيَّة. ولكن السُّؤال الذي يَطرَحُ ذاتَهُ في ظِلِّ تَعدُّدِ الأشخاصِ المَشمولين بالحَصانات، وتنوِّعِ تلك الحَصانات وتعدُّدها بالنسبة لبعضِ من المُفترضِ استِجوابهم، هل تبقى القَضيَّةٌ برُمَّتها من صَلاحِيَةَ المَجلِسِ العَدلي أم أن ثَمَّةٌ صَلاحِيَةٌ شخصيَّةٍ تُخرِجُ بعضَ المسؤولين عن الجريمَةِ من صَلاحِيَةِ المَجلسِ العدلي لتُودِعَها أمامَ مَحاكِمَ استِثنائيَّةٍ أُخرى؟ وهل من أشخاصٍ مَشمولين بحَصاناتٍ تحولُ دون مُلاحَقَتِهم جَزائيَّاً بصورَةٍ كُلِّيَّةٍ؟ أم أن بعضَ الحَصاناتِ يَحولُ دون مُلاحَقَة أصحابها عن الإخلالِ بواجباتِهِم الوَظيفِيَّةِ دون باقي الجَرائم، كما هو الحال بالنسبة لرئيسِ الجُمهورِيَّة فيما لو استثنينا حالتي خَرقِ الدُّستورِ والخِيانَةِ العُظمى؟ وهل المُلاحَقةُ العدليَّةُ تجِبُّ كلَّ أنواعِ المُساءلَةِ الأُخرى وفي طَليعتِها المُساءَلةُ السِّياسِيَّة، وفيما لو وجِبَت المُساءَلَةُ السِّياسِيَّةُ فكيف وماهو نِطاقُها؟

إن الإجابةَ على هذه التَّساؤلاتِ المَشروعَةِ والمُبرَّرةِ قانوناً وأخلاقيَّاً في ظِلِّ جريمةٍ كارثيَّةِ الطَّابَعِ، تملي علينا تفنيد المسألةِ وتَحديدِ الإشكالِيَّاتِ التي تُثيرُها. ولكن طبيعةَ الجريمةَ وانطواءها على جزءٍ فني يتطلَّبُ لقيامِ المسؤوليَّةِ العِلم بطبيعةِ المخاطرِ الماثلةِ في مادَّة نترات الأمونيوم، وهذا ما يدفعنا للقولِ بأن المَسؤوليَّةَ الجَزائيَّةَ تَقعُ في المَقامِ الاوَّلِ على موظَّفي الجماركِ الذين كان لهم الدَّورُ في إدخالِ الباخِرَةِ المُحمَّلَةِ بالنِّتراتِ إلى مَرفأ بيروت، ومن ثم إفراغِ حُمولتِها، وبعدَهُم يأتي المَسؤولونَ العَسكَرِيون المَعنيون مُباشَرَةً بأمنِ المَرفاً ،ومن ثُمَّ رُؤساؤهم عَملا بمَبدا مَسؤوليَّتِهِم التَّقصيريَّةِ القائمةِ على مَسؤوليَّةِ الرَّئيس عن أعمالِ المَرؤوسِ والمُندرِجَةِ ضِمنَ إطارِ الاخلالِ بواجِبِ الرَّقابَةِ في كُلِّ ما له علاقَةٍ بمُمارَسَةِ المَهامِ الوَظيفِيَّة. ومن ثم يليهم في المَسؤولِيَّةِ الأَمنيون الذين يَتوجَّبُ عليهِم التَّحوُّطُ والتَّحذيرُ من مَخاطِرِ تلك المَوادِّ القابِلَةِ للتَّفجير، ومَنعِ تَسريبِها من مكانِ تَخزينِها ،وبعدَهُم تأتي مَسؤوليَّةُ باقي الإداريينَ في إدارَةِ المَرفأ، لتأتي بعد ذلك مَسؤوليَّاتُ القُضاةِ والوزراءِ والرُّؤساء الذين اطَّلعوا على القَضِيَّة وأبدوا رأياً غيرَ مُناسِبٍ بعد أن اطَّلعوا على طَبيعَةِ المَخاطِرِ الماثِلَةِ في شُحنَةِ النِّيترات، أم لم يَستجيبوا لما طُلِبَ منهم، أو أبدوا تَعنُّتاً في اتِّخاذِ قراراتٍ لا تُراعي أدنى مُقتَضياتِ تَخزينِ مِثلِ هذه المَواد الخَطرةِ.

من الناحيةِ النَّظريَّة يبدو وكأن الأمرَ بغايةِ السَّلاسة، ولكن خلفَ أكمَةِ شُحنَةَ النِّيتراتِ أبعادٌ أُخرى وحِساباتٌ خاصَّةٌ تكمُنُ خَلفَ إصرارِ البَعضِ على مُلاحَقَةِ الرُّؤساءِ والوزراءِ أمام المَجلسِ العَدلي، إذ ثمَّةَ من يَرغَبُ في تَكريسِ أسبقِيَّةٍ أو عُرفٍ، يُتاحُ له من خِلالِهِ الفُرصَةَ للنَّيلِ من خُصومِهِ سَواءَ كانوا رؤساءَ حُكوماتٍ سابقين أم وزراء، للتَّنكيلِ بهم أو الضَّغطِ عليهم لتَرويضِهِم؛ ومن بينهم رؤساء الحُكوماتِ السَّابقين كالرئيس فؤادِ السَّنيورَةِ وسَعد الحَريري ونجيبِ الميقاتي، ووزراءَ تابِعينَ لكُتلتي التَّنمِيَةِ والتَّحريرِ وجبهةِ النِّضال الوَطني، كُلٌّ لأسبابٍ وذرائعَ أو مُعطياتٍ خاصَّة. ومن هنا توجُّسُ بعضِ المَسؤولين من السَّيرِ بهذا الموضوع لأنَّه يُشرِّعُ الأبوابَ أمامَ النِّكاياتِ والكيدِ السِّياسِيين.

ونبدأ بالتَّطرُّقِ للمَسؤوليَّاتِ وَفقَ نوعِيَّةِ الحَصاناتِ التي يَحتمي خلفَها  مُعظَمُ المَسؤولين عن الجَريمَة، ونبدأ بالحَصانَةِ الرِّئاسِيَّة:

  • فخامَةُ رَئيسُ الجُمهورِيَّة أعلن جَهارَةً وعَبرَ وسائلِ الإعلام عِلمَهُ بوجودِ الشُّحنَةِ، وهو مُفترضٌ به أن يعي مَخاطِرِها باعتبارهِ ضابِطٌاً سابِقاً في الجيش اللبناني، ومُحاطًا بنُخبَةٍ من الضُّباطِ العاملينَ في لِواء الحَرَسِ الجُمهوري أو المُستشارين العَسكريين، ولم يُوَجِّه أي تَعليماتٍ واضِحَةٍ تَتناسَبُ مع طَبيعَةِ المَخاطِرِ التي أُحيطَ بها. قيلَ الكثيرُ في ذلك واتُّهمَ الرئيسُ بالتَّراخي في الاستِجابَةِ، كما بالإهمالٍ وتَقصيرٍ بقيامهِ بواجِباتِهِ الرِّئاسِيَّةِ، باعتِبارِهِ يترأس جَلساتِ مَجلسِ الوزراء عندما يَحضُرُها، وله الحَقُّ في طَرحِ أيِّ موضوعٍ خارِجَ جَدولِ الأعمالِ، ولِكنَّ الرَّئيس عادَ وتذرَّعَ بأن لا صَلاحيَّات لديهِ تُخوِّلُهُ اتِّخاذَ إجراءاتٍ تنفيذيَّة أو توجيهَ تعليماتٍ لكونِ السُّلطَةِ التَّنفيذيَّةِ مُناطَةٌ بمَجلِسِ الوزراءِ مُجتمِعاً وبالوزراءِ كُلٌّ في ما خَصَّه. ونحن نرى أن رَئيسَ الجُمهورِيَّةِ غيرَ مَسؤولٍ جزائيَّا، وذلك لوضوحِ نص المادة 60 من الدُّستور. إلاَّ أن هذه الحمايةِ الدستوريَّة لا تُعفِيهِ أخلاقِيَّا من تَحمُّلِ تبعةَ ذلك التَّقصيرِ سِياسِيَّا.

  • رَئيسُ مَجلِسِ الوزراءِ يُعتَبَرُ مَسؤولاً عن أداءِ حُكومَتِه، كما عن أداءِ مَجلِسِ الوزراءِ والسَّهَرِ على تَنفيذِ مُقرَّراتِه، الرَّئيسُ الحالي أي الدُّكتور حسان دياب، لم ينفِ أنه أُبلِغَ بوجودِ شُحنَةِ النِّيترات من قِبَلِ مُديرِ عام جِهازِ أمنِ الدَّولة، وأنه عَزمَ على الانتِقالِ إلى المَرفأ لمُعايَنَةِ وضعِ الشحنةِ على أرضِ الواقعِ، ولكن ثمَّةَ من أوهمه أن الموادَّ كنايَةً عن أسمِدَةٍ زراعيَّة، وأنه مَضى على وجودِها في المَرفأ عِدَّة سَنوات، فعزَفَ عن التوجُّهِ إلى المَرفأ على أثرِ ذلك، وصَرَفَ النَّظَرِ عن مُعاينَةِ المكان. وعليه نرى أن مَسؤوليَّتهُ فيما لو ثبُتَ أنه نُبَّهَ لجَدِّيَّةِ المَخاطِرِ المُنطَويَةِ على تَخزينِ شُحنَةِ النِّيتراتِ في ظُروفٍ غَيرِ مُلائمَة، تَجعلُها عُرضَةً للتَّفجُّر.

  • الأمرُ يختلِفُ بالنِّسبة لرؤساءِ الوزراءِ السَّابقين الذين نَفوا جَميعاً عِلمَهُم بوجودِ شُحنَةِ النِّيتراتِ خِلالَ فترَةِ تولِّيَهُم لمَسؤولِيَّةِ رِئاسَةِ مَجلِسِ الوزراءِ إبَّانَ فترَةِ حُكمِ الوزاراتِ التي تولوا رئاستِها، وبما أن المَسؤولِيَّةَ الجَزائيَّةَ تقومُ على عُنصُرَي العِلمِ والإرادَة، وبانتِفاءِ أيٍّ من العُنصُرَين وهنا ” العلمِ” تَنتَفي المَسؤولِيَّةُ الجزائيَّة.

وبجميعِ الأحوالِ وفيما لو توفَّرَت أدلَّةٌ أو قَرائنُ يستشفُّ منها مَسؤوليَّةُ رَئيسِ مَجلِسِ الوزراءِ الحالي أو أيٍّ من رؤساء الوزراء السَّابِقين، فإن الدستورَ اللبناني أحاطَهُم بحَصانَةٍ تَحولُ دون اتِّهامِهم إلاَّ بقَرارٍ من مَجلِسِ النُّوابِ يَصدُرُ بغالبِيَّةِ ثُلثَي أصواتِ أعضائه، ويُتَّخَذُ بعدَ الوقوفِ على ما يتَضَمَّنَهُ تَقريرُ لَجنَةِ تَحقيقٍ برلُمانِيَّةٍ ذاتِ طابَعٍ قضائي يُشكِّلُها البرلمانُ لهذه الغايَة، وما يتضمَّنُهُ من توصِيات. وأن مُحاكَمَتَهُم تجري حَصراً أمام المَجلِسِ الأعلى لمُحاكَمَةِ الرُّؤساء والوزراء، وعليه نرى أنَّه ليس من صَلاحِيَّةِ المُحقِّقِ العَدلي استِجوابَ أيٍّ منهم بصِفَةِ مُدَّعى عليه، وإن كان يَجوزُ استِماعُ إفاداتِهِم بصِفَة شاهِد.

  • الوزراءُ الحاليُّون كما السَّابقون الذين تقومُ مَسؤوليَّتهم عن إدخالِ شُحنةِ النيتراتِ وتَفريغِها من على ظَهرِ الباخِرَة في حالِ كان يندرجُ من ضِمن صَلاحيَّاتِهِم مَعرِفَةُ ذلك، كما فيما لو ثبُتَ إبلاغُهُم أو عِلمُهُم بوجودِ الشُّحنَةِ وبالمَخاطِرِ التي تَنطَوي على تَخزينِها من دونِ مُراعاةِ مُقتضياتِ ذلك، وفي هذا الإطارِ لم ينفِ أيُّ منهم بالمُطلقِ عِلمُهُ بوجودِ الشُّحنَة. وعليه أُسوةً برؤساءِ الحُكومَةِ تَجوزُ مُلاحَقَتَهُم ،ولكِن وَفقَ الأُصولِ الدُّستورِيَّةِ المُشارِ إليها في الفَقرَةِ السَّابِقَة، حيث شَمَلَهُم بذات الحَصانَةِ المُقرَّرَةِ لرُؤساءِ الحُكومات، بحيث تُحصَرُ مُلاحَقَتَهُم في حالَتي الخِيانَةِ العُظمى والإخلالِ بالواجِباتِ المُترتِّبَةِ عليهم، أمامَ المَجلِسِ الأعلى لمُحاكَمَةِ الرُّؤساءِ والوزراء، بعد اتِّهامِهِم بأغلَبِيَّةِ ثُلثَي أعضاءِ مَجلِسِ النُّواب.

  • النوَّابُ الحاليون يتمتعون بحَصانَةٍ برلمانيَّةٍ تَحولُ دون مُلاحَقَتِهِم عَن المَواقِفِ السِّياسِيَّةِ التي يُدلونَ بها طيلةَ مُدَّةِ نيابتِهم، كما تَحولُ دون مُلاحَقَتِهِم عن كافَّةِ الجَرائمِ او اتِّخاذِ تَدابيرَ زَجرِيَّةٍ بحَقِّهِم، طيلَةَ فَتراتِ دَوراتِ انعِقادِ المَجلِسِ بدوراتِهِ العادِيَّةِ كما الاستثنائيَّةِ من دونِ إذنٍ مُسبَقٍ من المَجلِس. تُستثنى من هذا الإذنِ حالاتُ الجُرمِ المَشهود. ونَظَرا لكون طابعِ السُّلوكِ المَنسوبِ لهم أي للنُّوابِ الوزراءِ يَخرُجُ عن إطارِ مواقِفِهِم السِّياسِيَّةِ كبَرلمانيين، فمُلاحَقَتَهُم جائزَةٌ خارِجَ إطارِ انعِقادِ دَوراتِ المَجلِسِ، أما خلالَ دوراتِ الانعقادِ فالملاحقةُ تستوجبُ الاستِحصالَ مسبقاً على إذن من المجلسِ يُجيزُ المُلاحَقَة. أما مُلاحقَتَهم فتَجرى أمام المَراجِعِ القَضائيَّةِ المُختَصَّة، وفي هذه الحالة أمامَ المَجلِسِ العَدلي.

  • الموظَّفون المدنيون كما العسكريون الذين لا يزالون في الوظيفَةِ العامَّةِ يتمتَّعونَ بحَصانَةِ إدارِيَّةٍ تَحولُ دون مُلاحَقَتِهِم قبلَ الاستِحصالِ على إذنٍ إداريٍّ مُسبَقاً، من هنا خَيراً فَعَلَ المُحقِّقُ العَدلي بتوجيهِ كِتابٍ إلى السُّلطَةِ الإداريَّةِ أي رَئيسِ مجلسِ الوزراءِ في ما خَصَّ مُديرُ عام أمن الدَّولة، ووزيرِ الدَّاخِلِيَّةِ في ما خصَّ المُدير العام للأمن العام، ولا يَجوزُ استِجوابهم قبلَ صُدورِ الإذن أو نَقضِ القَرارِ الإدارِي القاضي برَفضِ الطَّلَبِ من قِبَلِ النائبِ العام التَّمييزي.

  • اما بالنسبَةِ للوزراءِ المنتسبين لنِقابَةِ المحامين، فإن ملاحقتهم تستوجبَ إذنا مسبقاً من نقابة المحامين، وإن رُفِض الطَّلبُ بالمُلاحَقة، ولها أن ترفُضَ ذلك، فيما إذا كان الفِعلُ المَنسوبُ للمُحامي يَندرِجُ ضِمنَ إطارِ مُمارَستِهِ للمِهنَة.

  • وأخيراً بالنِّسبَةِ للقُضاةِ الذين تمَّت مراجعتهم بشأن شحنةِ النيتراتِ والباخرة التي كانت تشحنها، والذين يُشتبَهُ بأن قرارَهُم كان في غَيرِ مَحلِّهِ قد ساهِمَ ولو على نحوٍ غيرِ مباشرٍ في حُصولِ الإنفِجارِ، فيُمكِنُ مُلاحَقَتَهُم وفقَ أُصولِ خاصَّةٍ بهم لحِظها قانون أصول المُحاكماتِ، وأمامَ محكمةِ التَّمييزِ الجزائيَّةِ بغُرفتِها الجزائيَّة، أم بهيئتِها العامَّة.

ويبقى التَّساؤل عن المرجعِ الصَّالِحِ فيما لو حصلَ تنازُعٌ إيجابيٌّ بين أكثرِ من مرجعٍ أو محكمة، كما هو الحالُ في القضيَّة الراهنةِ، حيث التنازُعُ بين مَحاكِمَ استثنائيَّةِ ثلاث: المجلِسُ الأعلى لمُحاكَمَةِ الرُّؤساءِ والوزراءِ والمَجلِسِ العَدلي والمَحكمَةِ الخاصَّةِ بمُحاكَمَةِ القُضاة؟ فهَل يُحاكَمُ الجَميعُ أمامَ المَحكمَةِ التي تُعتَبَرُ أعلى درجَةٍ أم كُلُّ أمامَ المَحكمَةِ الخاصَّة به؟

وهنا نبادِرُ للقَولِ إن المَجلِسَ الأعلى لمُحاكَمَةِ الرُّؤساءِ والوزراءِ صاحِبُ صَلاحِيَّةٍ حَصرِيَّةٍ في مُحاكَمَةِ الرُّؤساءِ والوزراء، ولا يَجوزُ مُحاكَمَةُ أيٍّ مُتَّهَمٍ آخَرَ إيَّاً كانت صِفَتهُ أمام هذا المَجلِس، خاصَّةً وأنه يَتشكَّلُ من طَبيعَةٍ مُزدوجَةٍ برلُقَضائيَّةٍ (يُشكَّلُ من نوَّابٍ وقُضاة)، وبالتالي تبقى مَسألَةُ تنازُعِ الإختِصاصِ الإيجابي مَحصورَةً ما بين المَجلِسِ العَدلي والمَحكمَةِ الخاصَّةِ بمُحاكَمَةِ القُضاةِ (الغرفَةِ الجزائيَّةِ لدى مَحكمَةِ التَّمييز أو الهيئةِ العامَّةِ لمَحكمَةِ التَّمييزِ بما يتناسَبُ مع مَركَزِ القاضي المُلاحَق، ووفقاً لما تَنُصُّ عليه المَوادُّ من 344 إلى 354 كما المادَّة 354 من ق أ م ج). وحيث أن المُشرِّعَ قد خَصَّصَ الفَصلَ العاشِرَ من البابِ الرَّابِعِ من القانون المُنوَّهِ عنه، يكون بالتالي قد تَقصّد احتِرامَ خُصوصِيَّةِ القُضاةِ وحِفاظاً على مَكانتِهِم وهَيبَتِهم. وعلى الرَّغمِ من أن المادَّة 353 من القانون ذاتِهِ توجِبُ شمولَ الملاحقَةِ لباقي المُساهِمينَ (محرِّض شريك مُتدخِّل أو مُخبئ) في الجريمةِ التي ارتَكبَها القاضي، إلاَّ أننا نَرى في جَريمَةِ المرفأ مَسؤولِيَّةُ القُضاةِ تَبقى مُستَقِلَّةٌ عن باقي الضَّالِعينَ في الجَريمَة، لذا نرى وجوبَ مُلاحقتِهِم أمامَ المَحكمَةِ الخاصَّةِ التي حَدَّدَها القانون للنَّظَرِ بجَرائمِ القُضاة.

على ضَوءِ كُلِّ ذلك، يبقى سؤالٌ وجيهُ بحاجَةٍ لإجاباتٍ شافيَةٍ: ما هو مآلُ المُلاحَقَاتِ الجَزائيَّةِ في جَريمَةِ تَفجيرِ شُحنَةِ النِّيتراتِ في ظِلِّ هَولِ وقْعِها على المُجتَمَعِ اللُّبناني، وإصرارِ ذَوي الضَّحايا على رَفعِ كُلِّ الحَصاناتِ وإعطاءِ الأذوناتِ بالمُلاحَقَةِ وتعاطُفِ مُعظمِ الشَّعبِ اللبناني مَعَهُم. وماذا عن رَفضِ وزيرِ الدَّاخليَّةِ مَنحِهِ الإذن للمُحقِّقِ العَدلي باستِجوابِ مدير عامِ الأمنِ العام؟ وهل سَيَطعَنُ النائبُ العام بقرارِ الوزير ويُقرِّرُ خلافَ ذلك؟ وهل سَتنحو نَقابَتا المُحامينَ في كل من بيروت وطرابلسَ المنحى الذي اعتَمَدَهُ وزيرُ الدَّاخِلِيَّةِ؟ وماذا سيكون مَوقِفُ المَجلِسِ النِّيابي في حالِ أصَرَّ المُحقِّقُ العَدليُّ على الامتِناعِ عن تَزويدِ المَجلِسِ النِّيابي بمَزيدٍ من المَعلوماتِ مُتسلِّحاً بسِريَّةِ التَّحقيق؟

بغضِّ النَّظَرِ عن الأسباب التي أملت على وزير الدَّاخِليَّةِ اتِّخاذَ قرارَه الرَّافِضُ لمَنحِ الاذن بمُلاحَقَةِ المدير العام للامن العام، سَواء كانت مَبنيَّةً اعتِباراتٍ شَخصِيَّة، أو نتيجَةَ ضُغوطٍ وإيعازاتٍ من جِهاتٍ فاعِلَة، كان من المُفضَّلِ مَنحُ هذا الإذنِ رَغمَ المُغالَطاتِ التي رافَقته، لجِهَةِ إفشاء الطَّلبِ عبر وسائلِ الإعلامِ وقبلَ إطِّلاعِ صاحِبِ العلاقة عليه، بل فَورَ وُصولِهِ إلى مَكتبِ وزير الدَّاخليَّة، في حين أنه كان يَقتضي الحِفاظُ على سِرِّيَّة الطلب.

بالنِّسبة لنَقابَتي المُحامين في الشمال وبيروت، نرى أنهما على خلاف موقفِ وزير الدَّاخليَّة ستكونان ميَّالتينِ للتَّجاوبِ مع طَلَبِ المُحقِّقِ العدلي بالمُوافَقَةِ على استِجوابِ الوزراءِ السَّابقين المُنتَسِبين لأيٍّ من النِقابَتين لاعتباراتٍ عدَّةٍ، أهمُّها أن ما هو منسوبُ إلى الوزراءِ السَّابقين المنتسبينِ إلى إحدى النقابتين من أفعالٍ يَخرُجُ عن إطارِ مُمارَسَةِ المِهنَةِ، خاصَّة وأن النقابةَ مَعنيَّةٌ أخلاقيا بتَحقيقِ العدالَةِ عامَّة وكشفِ جَريمَةِ المَرفأ بخاصَّةٍ ولتبني نقابةَ المحامين في بيروت مسألةَ الدِّفاعِ عن ذوي الضَّحايا.

بالنِّسبة لرئيسِ الحُكومَةِ الحالي كما السَّابقين، وكذلك الوزراء السَّابقين، نرى أن أعضاء مَجلِسَ النُّوابِ سيُدعون لجلسَةٍ عامَّةٍ تُخصَّصُ للتَّداولِ بطَلبِ المُحقِّقِ العدلي رَفعِ الحَصانَةِ عن رُؤساء ووزراء مُعينين بعينِهِم، والغالِبُ في الظَّن أنهُ سَيُقَرِّرُ تَشكيلَ لَجنَةِ تَحقيقٍ برلُمانِيَّةٍ ذات طابَعٍ قَضائي للتَّحقيقِ بما هو مَنسوبٌ لكُلٍّ من الرُّؤساءِ والنُّوابِ المَطلوبَ استِجوابُهُم بصِفَةِ مُدَّعى عليهم، وبعدَ اطِّلاعِ المَجلِسِ على تقريرِ اللَّجنَةِ والتَّوصِياتِ التي خلُصت إليها، سيُدلي النُّوابُ بأصواتِهِم لصالِحِ رَفعِ الحَصانَةِ عن جَميعِ أو بَعضِ مَن طلَبَ المُحَقِّقُ العدلي استجوابَهُم كي لا يَبدو المَجلِسُ وكأنَّهُ يَحمي المُقَصِّرينَ أو مُرتكبين، ولكِنَّهُ في المُقابِلِ  سَيؤكِّدُ المَجلِسُ على حَصرِيَّةِ صَلاحِيَّةِ مُحاكَمَةِ الرُّؤساءِ والوزراءِ بالمَجلِسِ الأعلى المعني بمحاكمتهم، وأن اتِّهامَهُم لا يَتِمُّ إلاَّ بِقرارٍ من مَجلِسِ النُّوابِ يَصدُرُ بغالِبِيَّةِ ثُلثَي أعضاءِ المَجلِس، وفي هذه الحالةُ يَخرُجُ استِجوابُ الرُّؤساءِ والوزراءِ عن صَلاحِيَّةِ المُحقِّقِ العدلي.

وفيما لو قرَّرَ مجلسُ النُّوابِ اتِّهامَ رئيسُ الحُكومَةِ الحالي أم أي من الرُّؤساءِ السَّابقين أو أحَدٍ من الوزراءِ السَّابِقين، سَيكونُ مُطالَبَاً بالقِيامِ بواجِبِهِ لِجِهَةِ انتِخابِ النُّوابِ الأعضاءِ في المَجلِسِ الأَعلى المُنوَّهِ عنه تَمهيدا لتَشكيلِ هَيئةِ المَجلِسِ كمَحكَمَةٍ جزائيَّةٍ تتالَّفُ من ١٥ عُضوا، سَبعَةُ نوابٍ وثمانِيَةُ قُضاةٍ يَختارُهُم مجلِسُ القَضاءِ الأعلى.

وبناءً عليه تكون ثلاث محاكم استثنائيَّة صاحبة صلاحيَّة للنَّظر في الجريمة كل في ما خصَّ اختصاصها الشَّخصي: المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء في ما خصَّ رئيس الحكومة الحاليَّة ورؤساء الحكومة والوزراء السَّابقين الذين يتهِمَهُم مَجلِسُ النواب، ومَحكمَةُ التَّمييز بغرفتها الجزائيَّة في ما خصَّ القُضاةِ ما لم يُطاول الاتِّهام أحدَ المحامين العامين في النيابة العامَّة التَّمييزيَّة أو النائب العام الإستئنافي او مفوض الحكومة أو قاضي تحقيق أول فيكون الاختصاص لمحكمة التمييز بهيئتها العامَّة، والمجلس العدلي ينظرُ بشأن باقي المُتَّهمين في القَضِيَّة.

وفي الخِتام نخلُصُ للقَولِ بأنَّه أمامَ هَولِ وفَظاعَةِ جَريمَةِ المَرفأ ينبغي ان تُرفَعَ جَميعُ الحَصانات، وان تُجازَ المُلاحَقَةُ بحَقِّ جَميعِ المُتورِّطين، أما في ما خصَّ الحَصاناتِ الدُّستوريَّةِ المَحصورَةِ بالرُّؤساءِ والوزراءِ فنَدعو لضَرورَةِ العَمَلِ على تَعديلِ النُّصوصِ التي ترعاها وحَصرِ صَلاحِيَةِ المَجلِسِ الأعلى لمُحاكَمَةِ الرُّؤساءِ والوزراءِ بالجَرائمِ ذاتِ العلاقَةِ بالصَّلاحِيَّاتِ الدُّستوريَّةِ السِّياسيَّة، وجَعلِ النَّظَرِ بالجَرائمِ العادِيَّةِ المُرتَكَبَةِ من قِبَلِ أيٍّ منهُم من اختِصاصِ المَحاكِمِ العادِيَّةِ أو الاستِثنائيَّةِ وَوفقَ الأُصولِ المُعتَمَدَةِ أمامَ كُلٍّ منها.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى