قراءة في موقف الحزب الشيوعي وحضوره: بين نصب شهداء الزرارية وساحة شهداء بيروت
عندما يستعر الإختناق المذهبي فإنه يأخذ مداه الأشمل والأوسع في التعبير عن ذاته، وبمختلف الأساليب الزاجرة والقهرية، فيصبح نصب لشهداء قاتلوا العدو الاسرائيلي هدفًا لأشخاص لطالما غُرِر فيهم أو لم يُعمِلوا عقولهم بالتفكير والتمحيص والبحث عن الحقيقة. وللإعلام، المرئي والمسموع والمكتوب ووسائل التواصل الاجتماعي، دورًا متعاظمًا في صناعة هذا الرأي العام والخاص على حدٍ سواء، هذا الرأي العام في الموقع الضد، يتبنى هو أيضًا، شعاراتٍ لا تقل خطورةً عن الإعتداء المذكور، إذ كيف تستقيم "ثورةً" يرفع بعض مدعيها في شوارع بيروت لافتاتٍ مشبوهةٍ لا تقود إلا للتوجس والحذر الشديدين، كشعار " بيروت مدينة منزوعة السلاح"؟!
إن موقف الحزب الشيوعي اللبناني كان ولا زال، في صلب عملية نقاش بين صفوف الحزبيين أنفسهم، وهم لغاية الآن، يتباحثون ويناقشون كل فاصلة في بيانات الحزب. ومع ذلك فإنهم متفقون حول أزمة هذا النظام وتسبب سلطاته المتعاقبة في تحويل لبنان الى بلد منهوب ومنكوب، ويطرحون، لمعالجة الأزمة، مع قوى تقدمية أخرى شاركتهم في الشوارع، قيام حكومة بديلة من خارج المنظومة الحاكمة لتحقق عدة مطالب أهمها:
_ وقف الانهيار الاقتصادي واستعادة المال المنهوب. ( علمًا أن حكومة دياب نفسها طرحت حلولاً جديةً لكنها مُنعت من تحقيقها وتنفيذها من قبل الذين شكلوها والذين أمنوا نصاب ثقتها).
_ اجراء انتخابات نيابية مبكرة، ولكن وفق قانون عصري للانتخابات خارج القيد الطائفي، يرتكز على عدالة التمثيل النسبي وتخفيض سن الاقتراع ليتسنى لشباب لبنان تقرير من يمثلهم.
وأي نقاش ومحاولات خارج هذين العنوانين يبقى قاصرًا عن توليد الحلول الناجعة لأمة لبنان العميقة.
لقد سبق الشيوعيون الانتفاضة، بل كانوا مهدوا لقيامها، فهم منذ سنوات لا يبرحون الشوارع، ولا يتركون مناسبة إلا ويهتفون فيها ضد السلطة، وهم، مع قلة في هذا الوطن من سياسيين واقتصاديين واعلاميين ومواطنين، شخصوا منذ عام 1990، الأزمة اللبنانية المتمثلة ببنية النظام ومصالح القائمين به، وحملوهم المسؤوليات التي ستترتب، وهي ترتبت، على سياساتهم المتعاقبة والتي يدفع اللبنانيون وطنًا وشعبًا ثمنها اليوم بشكل مريع. ولقد مشى الشيوعيون بهذه الجلجلة الاعتراضية حتى خرج شعب لبنان في 17 تشرين 2019، وانخرطوا، ككثيرين، مع شعبهم، واشتغلوا على تمييز خطابهم وموقفهم، ومشوا ببن النقاط والفواصل، فهم لا يمكن إلا أن يكونوا مع الناس وحدس الناس ومصالح الناس، وهم لا يمكن إلا أن يكونوا مع المقاومة ومواجهة العدو، وهم لا يمكن إلا أن يكونوا مع رفض الخضوع للخارج ولا سيما أن هذا الخارج هو من رشى، لعقود، السلطة وأزلامها وأعطاها أوراقًا فسادوية كثيرة، فتلقفتها وغنمت بها خيرات هذا الوطن وجعلته مديونًا بعشرات المليارات من الدولارات فيما لم يلمس الناس أي خدمات تذكر، بل أن سوء الحال يتفاقم في جميع القطاعات وبخاصة الكهرباء والماء والصحة والتعليم، فيما الفساد يزداد استشراءَ في كل مفاصل الدولة.
هذه المواقف للشيوعيين، أزعجت الكثيرين، حتى بعض الشيوعيين أنفسهم لم يتمكنوا من فهمها والتعبير عنها، ووقعوا بين سندان خطابات من يحاولون خطف الانتفاضة، وهي خطابات تحمل في طياتها أبعادًا مذهبية خالصة وأخطارًا وطنية تستدعي التوقف عندها مليًا، ولهم في تجربة مظاهرة 6 حزيران الفائت عبرة، فحينها أثنى الممانعون على موقف الحزب واعتبروه متقدمًا وميالاً لهم، ومع ذلك فقد كان لجزء من الشبوعيين رأي آخر، يتمثل بعدم ترك الساحات للأخطبوط السلطوي الطائفي الذي يود استثمار هذه الثورة لصالحه. ووقع، ولا زال الحزب، بين مطرقتي وسنداني السلطة، بكل مكوناتها، فمنهم من يستثمر الشارع ومنهم من يخونه.
يكابر الشيوعيون كثيرًا في تحمل ما لا يحتمل جسدهم المتبقي، مع ثلة وطنية غير منتظمة، يصارعون في لجج مذاهب الوطن الآخذة بالتمدد بدل التقلص!
واليوم ومع تصاعد حدة الأزمة ومرور الوطن بنفقٍ مظلم، وبخاصة بعد زالزال المرفأ وتداعياته التي يبدو أنها ستستمر حتي وقتٍ طويل، وبسبب ما يحصل في الشوارع وتداخله فيما بينه، فإن الخطاب المذهبي سيتصاعد، وستسعره كل المنظومة الحاكمة ( موالاة ومعارضة، اسميًا فقط) في البلد، وتذهب به الى أقصاه، لتمهد الطريق لعودتها بقوة، فأهل الحرب والسلم لن يتركوا مكاسبهم في لحظة موت الوطن، وسينعشوه، على طريقة نائب الوطن نديم الجميل، في غرفة العناية الفاقعة، نعم الفاقعة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، مؤقتًا وفق المثل القائل " الغايب عذره معه"، وسينتظرون ما تحمله السنوات القادمة لهم من مفاجآت على طريقة العرافين الذين كبرت شعبيتهم وتمددت بين طوائف لبنان أفقيًا. ( المؤسف أن أحزاب لبنان فشلت وطنيًا واقتصر حضورها مذهبيًا فيما يحصد العرافون والمنجمون جمهورًا عريضًا من كل الطوائف؟!)
الجمل الاعتراضية كثيرة، ولكن وبالعودة الى موضوعنا، فإنه في هذا الوقت بالذات، تخرج الغرائز الطائفية وتظهر بشكل درامي مقزز، حيث يتناغم أشخاص مجهولون مع أخرين معلومون (أصحاب شعار بيروت منزوعة السلاح) وينفذون عملية اسرائيلية الهدف والمصلحة، فيحرقون نصب لشهداء سقطوا في مواجهة العدو في قرية جنوبية هي خزان لقوى مقاومة وهي فسحة جنوبية ثقافية وفكرية متنوعة. الزرارية.
وهنا على كل قوى المقاومة تفهم موقف الحزب الشيوعي اللبناني والكثيرين ممن يتشابهون معه، كما هو وليس كما يريدون هم أن يفهموا!
أفليس وجود شيوعيين في الشوارع يرفضون أي شكل من أشكال المس بموضوع المقاومة نقطة شديدة الايجابية وجب الحرص عليها وليس التحريض؟ أفليس وجود شابات وشباب يهتفون غاضبين في وجه ماكرون في شوارع بيروت أمرًا يقتضي التنويه به وليس التعمية عنه؟
إن وجود قوى غير طائفية في الشوارع لهو يسدي خدمة حقيقية للوطن، فلبنان بحاجة حقيقية الى أوكسيجين نظيف كي يقاوم مذهبية الطوائف وعفنها المقيت.