رأي

قراءة في مشروع “الشرق الأوسط” مجدداً والأسباب الكامنة وراء تعثره(ماري ناصيف الدبس)

 

د. ماري ناصيف الدبس* – الحوارنيوز

 

إذا أردنا أن نفسر التطورات المتسارعة التي تلف العالم اليوم، وبالتحديد عالمنا العربي، لا بد لنا من العودة قليلا إلى الوراء، إلى ذلك اليوم المؤرّخ الحادي عشر من أيلول / سبتمبر 2001 الذي شكّل نقطة تحوّل جديدة في تاريخنا المعاصر بعد تلك التي شكّلها انهيار حائط برلين، ومن بعده الاتحاد السوفياتي وما تلاهما من تغيّرات في قلب أوروبا أدّت إلى إلغاء كل الحدود التي نجمت عن الحرب العالمية الثانية ونتائجها العسكرية والسياسية، كما أدّت، عالمياً، إلى نشوء نظام عالمي جديد آحادي القطب تقوده الامبريالية الأميركية دون أي منازع.

في حينها، وبالتزامن مع هذا التغيير، طرح “مشروع الشرق الأوسط” الذي مرّ بتسميات وخرائط عدّة قبل أن يستقر واضعوه على صيغته النهائية التي تبلورت نهائياً في شهر تشرين الأول / أكتوبر 2001: على الولايات المتحدة تنظيم غزو ست دول عربية هي العراق، وليبيا، وسوريا، ولبنان، والصومال، والسودان، خلال مهلة لا تتعدّى خمس سنوات، وذلك إنطلاقاً من مواقع هذه البلدان الاستراتيجية المهمة وخاصة من الثروات التي تختزنها في البر والبحر، وفي مقدمتها الغاز والنفط.(1)

هل يمكن القول، اليوم، إن واشنطن استطاعت تحقيق مشروعها، وإن لم يكن ذلك خلال مهلة السنوات الخمس التي كانت قد حددتها لذلك؟ وهل أن “الشرق الأوسط الجديد” بدأ يتبلور، خاصة بعد العدوان على غزة ولبنان، وما يجرى من تطورات في سوريا؟ وهل أن طريق الكيان الصهيوني قد أصبحت معبّدة، إن بالنسبة لإنهاء القضية الفلسطينية، ومن ضمنها الاستغناء عن فكرة قيام دولة فلسطين، أم بالنسبة لصياغة الصفحة الأخيرة من كتاب التطبيع مع الدول العربية الذي تقدّم خطوات كبيرة عبر ما سمي بـ “صفقة القرن” و”اتفاقيات أبراهام” التي وقّعت أيام رئاسة دونالد ترامب الأولى وبإشراف إدارته؟

من المبكر الاجابة بنعم على هذه الأسئلة، وإن يكن بعض المحللين المهللين للدور الامبريالي – الصهيوني في منطقتنا قد رأى أن وقف إطلاق النار في لبنان ومن ثم في غزة، وما جرى بينهما في سوريا، إضافة إلى عودة دونالد ترامب المظفّرة إلى البيت الأبيض، يمكن ان تعتبر بمثابة انتصار كاسح للامبريالية الأميركية، ومعها كل دول حلف الناتو والأنظمة الرجعية العربية، وأن “العصر الأميركي” قد عاد إلينا وسيتم تكريسه لسنوات طوال في بلادنا، وعلى الكل أن يدخل صاغراً في لعبة الوفاق التي أعاد ترامب انطلاقتها، منذ بضع سنوات، مع الكيان الصهيوني والتي قاد جزءاً من حملته الانتخابية تحت شعار أن مصلحة شعوبنا تقتضي العيش “بسلام مع جيرانها” والاعتراف بأن هؤلاء يشكّلون واقعاً لا يمكن تجاوزه… لأن هذا ما تريده واشنطن وما يسعى إليه كل نزلاء البيت الأبيض منذ الحرب العالمية الثانية وحتى يومنا هذا.

لا شك في ان الاعتداءات الصهيونية الأخيرة، التي انطلقت بعد عملية “طوفان الأقصى”، قد أدّت إلى توسع تواجد قوات العدو في مناطق جديدة من الأرض العربية، في غزة وجنوب لبنان وسوريا، في ظل دعم امبريالي أميركي مطلق، على الصعد العسكرية والدبلوماسية والمالية. ولا شك أن هذا الدعم، الذي سخّرت له الولايات المتحدة كل قواعدها وقواعد حلف شمال الأطلسي (الناتو) في العالم، قد تم وسط صمت رسمي عربي كان مقدّراً نتيجة التبعية التي تتصف بها الأنظمة العربية عموماً. وصحيح أيضاً أن العدو قد أمعن في القتل والتشريد والتخريب واستخدام الأسلحة المحرّمة دولياً (2)، غير أننا لا بد أن نشير في الوقت عينه إلى ما تكبّده أيضاً، هو الآخر، من خسائر جسيمة على كافة الصعد، وبالتحديد على الصعد العسكرية والبشرية عموماً… هذه الخسائر التي ظهرت جلية، أولاً في هروب عدد كبير من المستوطنين وصل إلى حدود نصف المليون، وثانياً في تقلص الهجرة الصهيونية إلى فلسطين المحتلة إلى حدها الأدنى (3). ولا ننسى، في الوقت عينه، كل التحاليل التي تحدثت عن خسائر اقتصادية ومالية ضخمة لم يسبق لها مثيل، ولا كل ردود الفعل المستنكرة والشاجبة التي سجلت، ولا تزال تسجّل، من قبل العديد من الدول والحركات الشعبية على سياسات الابادة الجماعية والمجازر، والاجرام عموماً، التي مارسها الكيان الصهيوني. هذه الردود التي أدّت إلى تحركات جماهيرية قل نظيرها وكذلك إلى مواقف غير اعتيادية، ناهيك عن القرارات التي اتخذتها المحكمتان الدوليتان (والتي حظيت بموافقة عدد من الدول الحرّة في العالم) باعتبار ما يجري في غزة يقع تحت جريمة الابادة الجماعية وباعتبار قادة الكيان الصهيوني، ونتنياهو وغالانت بالتحديد، مجرمي حرب ومطلوبين أمام العدالة كون كل منهم يتحمّل المسؤولية الجنائية “عن جريمة الحرب المتمثلة في التجويع كأسلوب من أساليب الحرب والجرائم ضد الإنسانية المتمثلة في القتل والاضطهاد وغيرها من الأعمال اللاإنسانية”.

وهاتان النتيجتان الأخيرتان، الهجرة وافتضاح السياسات الاجرامية التي كانت تمارس منذ سنوات وسنوات ضد شعب فلسطين على وجه الخصوص، ستؤديان حتماً، ليس فقط إلى استمرار هروب المستوطنين المستعمرين، بل كذلك إلى تجذّر مقاومة العدوان والاحتلال لدى شعوب الدول المحيطة بالكيان المغتصب، وصولاً إلى متابعة النضال من أجل استعادة أرض فلسطين وكل الأراضي العربية المحتلة. فقضية فلسطين كانت وستبقى القضية المركزية للشعوب العربية، والصراع مع الامبريالية والصهيونية سيستمر، بأشكال وأساليب متجددة، وبتحالفات بدأت تلوح في الأفق العالمي، حتى دحر الامبريالية بشكل كامل عن بلادنا وكوكبنا، وتحرير الأرض العربية والثروات التي تزخر بها من رجس الاحتلال الصهيوني الذي يشكّل القاعدة الأساس للامبريالية في المشرق العربي، بل والعالم ككل.

 

مجلة “الهدف”، العدد 67 (يناير / كانون الثاني 2025)

 

(*) – المنسقة السابقة للقاء اليساري العربي

 

(1) –   يقول الجنرال الأميركي ويسلي كلارك، في مداخلة ألقاها في العام 2007، أنه تلقّى هذا القرار مرفقاً بتحديد مهلة خمس سنوات لتنفيذه. وعندما سأل لماذا أولوية العراق، وهل لذلك ارتباط بمنظمة “القاعدة”، كان الجواب أن للأمر علاقة بالبترول. كما نشر ذلك في كتاب يحمل عنوان “العراق، الارهاب والامبراطورية الأميركية: كيف نربح الحروب الحديثة”. ومن المعلوم أن كلارك تسلّم مقاليد حلف شمال الأطلسي (الناتو)…

(2) – عشرات آلاف الشهداء في غزة والآلاف في لبنان، بينهم العديد من الأطفال، عدا عن أكثر من مئة ألف جريح وعن الأبنية والمنازل والمتاجر التي سويت بالأرض وعن الأراضي الزراعية والحرجية التي أحرقت بالفوسفور الأبيض وغيره من الأسلحة التي قدمتها واشنطن وعواصم البلدان المنتمية إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)… ولا ننسى آلاف المعتقلين.  

(3) – كشف موقع “زمان إسرائيل” أنه وفقاً لبيانات سلطة السكان والهجرة، فإن نحو 370 ألف مستوطن غادروا فلسطين المحتلة منذ اندلاع الحرب وحتى نهاية تشرين الأول/ أكتوبر الماضي. وفي تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، غادر نحو 139,839 إسرائيلياً، ولم تسجل أي بيانات عودة لكافة من غادر منذ ذلك الوقت. وأوضح الموقع أنّ النصف مليون إسرائيلي المغادرين لا يتضمنون عشرات آلاف العمال الأجانب والدبلوماسيين، الذين غادروا أرض فلسطين المحتلة بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر بسبب سوء الأوضاع. وأشار الموقع إلى أن الحرب المتواصلة قللت هجرة اليهود إلى الكيان المحتل.

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى