قراءة في الأجساد المهترئة والنفوس المتعبة والوجوه الحزينة والأرواح التي تنتظر…
من مكاني في بيت الامام الحسين (ع) ، أراقب الداخلين الواحد تلو الآخر، لتقديم واجب العزاء والمواساة لأهل الفقيد الواقفين بدورهم عند مدخل "الحسينية" . الناس تدخل متعبة ،تعرفها من سمات وجوهها، ومن لون واختيار ثيابها ،من ابتساماتها الملغومة قهراً، من عبسات وجوه صارت ترى في الموت راحة وحلّاً.
نعم، طبيعيّ ان تكون الوجوه عابسة وحزينة. فالمناسبة مناسبة عزاء وموت ولا يصحّ هنا الحكم السريع والمتهوّر عن أوضاع الناس وتحوّلاتهم النفسجسدية ،لأنّ إحتمال الخطأ والالتباس واختلاط الامور كبير، انما ما يمكن تأكيده هو ذلك العرض السيء لأجسام بالكاد تحملها ساقيها، ملتوية عند الخصر،غير منتصبة الرأس الى الأعلى، من دون عضلات مفتولة ومن دون تناسق لأطراف الجسد. معظم الأكتاف مائلة الى أسفل اليمين أو الى أسفل اليسار،القمصان الواسعة من فوق السروال لا تخفي البطون المنتفخة ولا تصحّح اوضاع بطون أخرى غائرة نحو الداخل لتلامس فقرات الضهر.
مرّ من أمامي أحد الضباط السابقين ، متثاقل الخطى، يرفع ساقه اليمنى بصعوبة، أومأت له اسأله عن صحته وسط ارتفاع صوت ترتيل القرآن ، فأشار لي بغمزة عين وحركة يدين ما معناه ان السبب يقع في خطأ لطبيب لا وفّقه الله حسب إيماءاته…
تأملت قارىء القرآن، صوت رائع، ترتيل محترف، يجذب المستمعين بإعجاب وخوف على المصير، ذو وجه تبدو عليه الراحة والاطمئنان ما جعلني احمد الله على نعمته، لكن ما إن انتهى من ترتيل الآيات القرآنية حتى وقف لينزل عن منبر الامام الحسين، نزل الثلاث درجات متكئا على الجدار تارة وتارة متكئاً على حافة الرخام فوق البرانق الحجرية . سألت الحاج الجالس بقربي عن صحة قارئ القرآن فأجابني أن السكري انهكه وان بصره غدا ضعيفاً…
لحظات واعتلى إمام البلدة المنبر، كان صوته في الماضي يصل الى ما بعد ، بعد، البلدات المجاورة لبلدتنا، اليوم بالكاد يسمعه الجالس في الصف الأخير من "الحسينية". لا داعي لأسأل عن صحّته ، انا أعرف حالته المرضية ، جلطة دماغية في عمر الخمسين ،كادت لولا رحمة الرحمن ان تؤدي به الى التهلكة …
سمعت الجالس خلفي يسأل مختار البلدة القريب منه عن ابو حسين وابو علي ليجيبه المختار أنهما ما عادا خرجا من منازلهما، لا يقدران من العجز والعمر الرذيل ومن تشكيلة الامراض العجيبة.
تأسفت على حال أهل بلدتي، الناس الطيبين. لعنت في سرّي العمر و شتمت آثاره الواضحة والسريعة على حركات واشكال الناس .لعنت الزمن والامراض والأطباء والصيادلة والادوية والمستشفيات والاقدار والتحوّلات والمال و اربابه . غصت في نفسي أتفلسف على حالي عن معنى الخلق والوجود . وحدها الأنا تسمعني في كلّ مرّة وتهنئني بكلمة "برافو" . اعرف ف"أناي" تخاف عليّ من حالي، ترشيني لتطمئنني ولتعالج حسرتي .وانا في تمتمتي هذه ، لمس رقبتي صاحب لي وسألني موشوشاً عن صحتي في لحظة كان إمام البلدة فيها يشدّد على الآية القرآنية التي تقول:
"يدرككم الموت ولو كنتم في ابراج مشيدة"*
سألني صاحبي عن البروستات وامكان الالتهاب او السرطان، فتذكرت أني كالآخرين من ابناء بلدتي أبدو لهم مريضاً بجسد غير منتصب وبعينين متعبتين و بكتف ملتوٍ وبانكسار عند الخصر عند دخولي للحسينية…
قبل ان أغادر الحسينية سمعت حسن يخبر حسين ان عبدلله قال له ان المقبرة إمتلأت بالموتى وعلينا تدبير أمر المقبرة الجديدة .
متعبون ومرضى في بلدتي، إما مريضي الجسد او مريضي النفس او مريضي الحال ،أغلبنا مقهورون ، متعبون ، ترهقنا الخيبات والتبدلات المعيشية، اغلبنا يبحث عن رزقه إما يجده وإما لا…
لا تسال لماذا انعدمت الطيبة والعفوية في بلدتي ،بل إسأل عن جيوبها وآمالها واشغالها ، إسأل عن حسن تدبير الحال.
عدت لأسلّي نفسي بنفسي لأنسى سؤال صاحبنا عن البروستات اللعين، لأسلّي نفسي في انتظار دخول شخص رياضي وانيق واحد لاسجل في ذاكرتي اننا نحن الناس المهزومين في تدبير أحوالنا بين ماء وكهرباء وتكاثر لنفايات وحسم للرواتب بين انهيار موعود وافلاس مؤجل،بين ناهب وسارق وكاذب ومنافق، أننا فعلاً لأشرف الناس…
نحن اشرف الناس…
نحن الناس…