قراءة في أسباب إرتداد بعض اليساريين وإنقلابهم على تجربتهم.
من المسائل الملفتة للإنتباه ويجب التوقف عندها ، ظاهرة إرتداد بعض من كانوا يساريين بل متطرفين في يساريتهم ومدافعين عن النموذج الاشتراكي – الماركسي الى الاعجاب والدفاع، من حيث يدرون ومن حيث لا يدرون، بنقيض التجربة الاشتراكية ،بل غدوا يتحدثون بإستهزاء وسخرية عن تجربتهم اليسارية الطائشة كمغامرة صبيانية، وكلّ ذلك مقبول وربما عادي وطبيعي، فلكل امرء الحق في نقد تجربته الانسانية-الاجتماعية – السياسية، إنما أن يتحول الواحد منهم إلى رام لسهامه الساخرة والحارقة، لا بل الحاقدة ضد كل من استمرّ بمقارعة السياسة الأميركية التشبيحية واللامنطقية في التعاطي مع آمال ومصير شعوب بأكملها ،وفقط لانها لا تؤمن بالرأسمالية الفوضوية والربح السريع و مهما كان الثمن وكيفما اتفق ،فذاك مدعاة استغراب وتعجب لا بل مدعاة تأمل وسؤال: كيف يتحوّل من كان مناضلاً يساريا الى ناقد حاقد و مدمر مقزز ضدّ من بقي يساريا؟
لماذا تحوّل هؤلاء ضدّ مّن ما زال يواجه ما يعتقده هجوما إمبرياليا رأسماليا – صهيونيا لصالح اسرائيل ولصالح نشر الفوضى لاعادة تنظيمها وترتيبها كما تتوافق ومصالح منظومة الشركات الكبرى وسبل تصريف الانتاج الكاسد.؟
في قراءة لكتابات وافكار وسلوكيات هؤلاء "المرتدين" نجد أن القاسم المشترك بينهم هو دخول المال الى جيوبهم أوّلا ،وثانياً تبديل مناطق سكنهم من حيّ فقراء الى حيّ طبقة وسطى او غنية، وثالثاً تغيير الأصدقاء والأصحاب وأمكنة السهر ،و رابعاً تخطي أعمارهم الاربعين عاماً، وخامسا تعرضهم للخيبة وللصدمة الكبرى عند انهيار المنظومة الاشتراكية وإنقلاب الشعوب على الانظمة الماركسية ،او بالأحرى الذين واجهوا الخيبة والصدمة عبر الهرب والاستسلام للعدو النظري- الفكري- العقائدي التاريخي لليسار، وكل ذلك يشير الى أن تحررهم من العوز والحرمان والفقر والعقدة الدونية جعلهم يبرزون شخصيتهم الحقيقية الأساسية الرافضة والحاقدة لبيئتها الأساسية والحالمة ان تكون في الطرف الآخر من طبقات المجتمع، اي إن حركتهم النضالية لم تكن منطلقة من إحترامهم وحبّهم لطبقتهم الاولى بل غيرة وسعيا ليكونوا في المقلب الآخر من المجتمع لما يعتقدونه تحقيقا حقيقيا لغرورهم المستتر ولنرجسيتهم المتوترة التي تعتقد انها خلقت خطأ من رحم أم مسكينة وفي ظل أب مغلوب على أمره ،وفي شارع حقير لا يليق بأناهم، وبأن ذكاءهم يليق بالتخرج من الجامعة الأميركية، وان الصدفة والحماقة رمتهم في جامعات الاتحاد السوفياتي، وعادة ما تكون شخصيتهم الحقيقية متأففة دوما لا تشبع من النقد والجدل وتفكيك المبادىء من جواهرها لتسخيفها وللسخرية منها ،وعادة ما يكونون عبثيين بتوجهاتهم ينقلبون على افكارهم في كل فترة وفي كلّ حين، يتمتعون بحبّ الجدل واطلاق النكات السياسية الساخرة من كل صاحب عزيمة ومثابر على التضحية من أجل المجتمع والبلاد وغالبا ما هم بحاجة دورية لتفريغ توترهم العارم بالنقاشات الحادة والهازئة برأي الآخرين .
هذا يعني أنهم لم يكونوا بالأصل يساريين حقيقيين، ولو أنهم على درجة عالية من الثقافة و ذوي تجربة نضالية وربما عسكرية أيضا، بل ربما أكثرهم كغالبية اللبنانيين من ذوي الشخصيات المضطربة المتأزمة وربما المريضة التي تستدعي العلاج ،والتي هي على صراع دائم في داخلها بين ماذا تحب ان تكون وبين ما هي عليه بالحقيقة، بين إمكاناتها الفكرية -المادية المحدودة وبين ما يتطلب الواقع من حيثيات، بين ما يحبونه وما يكرهونه، بين الثابت لديهم من اعتقادات وبين المتحول وفقاً للظروف .و اسوأ هؤلاء اليساريين المرتدين هم الذين التحقوا بتيارات تدعي الاصلاح السياسي ،وما هي الا عصابات برجوازية -عائلية-طائفية تدميرية تنتهي عند موت قائدها الفذّ ،فسبحان المغير للأحوال.
هذا الكلام لا يصحً فقط على اليساريين المرتدين الى خطوط العدو الفكري- العقائدي ،لا بل يتعداهم ليشمل أيضا اليمينيين المستثنين من خيرات قياداتهم اليمينية التاريخية. تلك القيادات التي تنعم بالسلطة و بنفاق الخطاب السياسي-التجاري الملطف بكلمات عاطفية ورقيقة ،قبل ذبح ضحاياهم من فقراء المسيحيين قبل ذبح فقراء المسلمين ،والذين ما تعبوا من ارتكاب المجازر الاقتصادية- الاجتماعية- البيئية- النفسية بالتعاون مع يمين المسلمين من برجوازيات الطوائف ،وأيضا مِمَن استولى على مسار تضحياتهم التاريخية ضد اليسار والحركة الوطنية اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية والوجود السوري، ليصبح ناطقاً بأحلام المسيحيين الرُهابيين، وليتصدر السلطة كقائد تائه بين شخصية الرئيس بشير الجميل المرحوم وبين شخصية الجنرال ميشال عون الحي المتقدم في العمر، وبين قائد علمه السجن اكثر مما علمته الحياة والحرب فنجح.
وهذا الكلام يتعدى اليساريين واليمينيين ليطال أيضاً الاسلاميين او شبه ألإسلاميين او المتحوّلين شذوذا لإسلاميين في مجتمع ما زالت الآلهة فيه تجوب أزقة البيوت المتعطشة للقاء ربّها، لتتحرّر من تجربة اليسار واليمين والاسلاميين الجدد والمتجددين والذين نجحوا في العسكر (تحية لأبطالهم) وفشلوا في الحياة المدنية ،لا بل كانوا أسوأ ممن سبقهم في جمع المال والجاه وركل هموم الناس بأقدامهم وباستبعادهم لكل من له شخصيته و رأيه الخاص بحجج واهية، ونصبوا على شوارع المدن والبلدات من يتقن الصلاة والصوم اكثر مما يتقن الثقافة العامة.
يا ليت الجميع يعتقد بما بشرنا به سابقا بنهاية اليمين واليسار والاسلامية السياسية والرأسمالية الهوجاء (في آخر مراحل عمرها) ،بانتظار ما سينتجه العقل الالكتروني من أنظمة حكم جديدة تتوافق مع المراحل المقبلة ..وللحديث تتمة .