قراءة استراتيجية في التحولات العالمية:الشرق الأوسط وضرورات الأمن القومي (فرح موسى)
بقلم أ.د فرح موسى – الحوارنيوز
يحتدم الصراع في الشرق الأوسط،وتكثر بيانات التحذير والإنذار من وقوع الحرب الكبرى في ضوء تناقض المصالح والأهداف،وقد سهى الكثيرون ممن يستعجلون الأحداث،ويثيرون المخاوف،وأكثرهم يعمل في حقول الترصّد والترقّب،عما تعنيه هذه الحرب من تحولات سياسية واقتصادية،واختلاف مسارات في توجهّات الدول،سواء لجهة نفوذها العالمي،أو من حيث انعكاسات الأحداث على تحولاتها الداخلية وبناها الحزبية والقيميّة،وغير ذلك مما تراه هذه الدول متكاملًا مع مصالحها الخارجية وأمنها القومي.
فإذا كانت أمريكا تريد الحرب الكبرى في الشرق الأوسط،فهي لا تحتاج إلى مسوّغات من خارج واقعها السياسي والاقتصادي،وقد سبق لها أن فعلت ذلك باختلاق الأكاذيب في غزو العراق، وأفغانستان، وغيرها من الدول التي لم تتورع عن غزوها لضرورات الأمن القومي،وهذا هو الشعار الغالب على كل غزواتها،أنها تريد حماية قيم الليبرالية الغربية وتعزيز أمنها القومي!فإذا لم يكن ثمة خطر على ما تراه نفوذًا لها،فإن حروبها لا تلبث أن تتحول إلى مناورات لتحسين مواقع النفوذ،أو لتكريس وقائع،أو لتثبيت معطيات على نحو ما تقوم به في الشرق الأوسط مع دول وأنظمة سبق لأمريكا أن اختارت لها الوظائف والمهام لحماية الأمن القومي بكل ما يعنيه هذا الأمن من إسرائيل ومصالح وأهداف استراتيجية!
فأي حدث لم يكن مسموحًا له أن يخرج عن مساره،بل لا بد أن يكون محسوبًا وآتيًا وفق سياقاته لخدمة الأمن القومي في الشرق الأوسط، ولهذا،نجد أن حروب التحريك كلها لم تكن وافدةً من خارج السياق، وكانت لها مفاعيلها الإيجابية في تعزيز الرؤية الغربية بما يخدم المشروع الغربي في المنطقة العربية قبل غيرها!
ولا شك في أن الوعي الأمريكي لمسألة الأمن القومي،قد أوقع أمريكا والغرب في كثير من الأخطاء الاستراتيجية،وهذا ما لم يعد متاحًا للغرب تحملّه بعد ترهله في إدارة الصراعات ذات المنحى الاستراتيجي لدول وشعوب منطقة الشرق الأوسط. وبناءً على ذلك،نرى أن الدولة العميقة لكل أحزاب الغرب ما تزال تنظر إلى الشرق الأوسط على أنه بعد استراتيجي لها؛ولكنها لم تعد قادرةً على المجازفة في رسم خرائطه على نحو ما تراه مناسبًا لها،ولهذا،نجدها تتريث في حسم مواقفها،وتدعو إلى الحلول وفق رؤيتها للأمن القومي بعيدًا عن أي قيم أو مبادىء،فالكل يسقط أمام خيارات الدولة العميقة في الغرب! بل نرى أن كل شيء مسوّغ ارتكابه من قتل ومجازر للإبقاء على حيوية المشروع الغربي في الشرق الأوسط،وقد اختيرت إسرائيل لتكون حاميةً له ومدافعةً عنه بالآلة الغربية نفسها التي قتلت في كل مكان من العالم لحماية ما يسمى بالأمن القومي الأمريكي!
لقد قال الرئيس الأمريكي بعد طوفان الأقصى،إن إسرائيل لو لم تكن موجودة لأوجدناها،وهذا الكلام مفاده،أن الكيان الصهيوني ليس له أي معنى إنساني،أو حضاري في منطقتنا،وغاية ما يراد منه أن يكون جزءًا من الأمن القومي الغربي،بحيث يكون من مهامه،ومن مهام كل من يلحق به ويعمل له،حماية مصالح الغرب،وقد حصل أن تعرض هذا الكيان لصدمةٍ وجودية؛فكيف السبيل إلى إنقاضه من دون أن تتعرض مصالح الغرب لمزيد من المخاطر؟ وهل تختار أمريكا الحرب لمنع حدوث ذلك؟ وماذا لو كان من مؤديات الحرب الكبرى،أن يصبح الكيان الصهيوني أكثر قلقًا في وجوده؟
هذه أسئلة تطرح اليوم في أروقة مراكز القرار الغربية،وهي مطروحة استراتيجيًا،وليس لمجرد أنها تتعلق بتحول اقتصادي،أو سياسي في هذه الدولة،أوتلك،ذلك أن الدولة العميقة تنظر إلى استراتيجية الموقف وما يمكن أن يحدثه من تحولات في شرق جديد اختلف جوهريًا عما كان عليه في العقود الماضية!
نعم،لقد أدركت أمريكا حقيقة ما يمكن أن تؤول إليه الحرب الكبرى، فاختارت حصر الصراع،وحسمه في مكانه منعًا من تداعياته ومؤثراته الاستراتيجية على الأمن القومي! كما أدرك الغرب كله جوهر تحول الصراع من كونه مجرد رؤية سياسية،ونزاع مضبوط التحول،ليكون صراعًا شعبيًا مقاومًا لا قِبَل للغرب به،بوصفه صراعاً ممتدًا على مساحة الشرق الأوسط،فوسائله ووسائطه باتت مختلفة تماماً عما عهده الغرب من صراعات!
فإذا كانت أمريكا لا تريد الحرب،وعاجزة عن أن تبقي بوارجها وسفنها لحماية أمنها القومي،فلم يتبق أمامها من خيارات سوى أن تبتلع طعم التحول الجديد،بحيث تفهم أمريكا والغرب،أن الشرق الأوسط تغيّرت ملامحه على نحو جذري في كل أطره الناظمة لعلاقاته وتفاعلاته مع العالم. إنه شرق جديد في معطياته الوجودية قبل السياسية،فلا يعقل أن تراهن أمريكا على قوتها للإبقاء على تحيّزات ضيّقة لحماية أمنها القومي! فلتختر أمريكا والغرب أمنًا من هذا الواقع الجديد،الذي كان من أولى تعبيراته طوفان الأقصى وامتداد المقاومة إلى كل العالم،لتكشف عن زيف استراتيجيات الغرب وليبراليته المتوحشة! والسلام.